إن الإشكالية الأساسية والخطأ الذي لا تزال واقعة فيه الأحزاب السياسية اليمنية منذُ تأسيسها ما قبل الوحدة، تتمثل في تضليلها الرأي العام المحلي والدولي، والدفع باليمنيين للخلط بين مهامها ووظائفها والدور المعول عليها القيام به كأحزاب حاكمة أو معارضة والتي يأتي في مقدمتها سدها للفراغ الناشب عن إحساس الهيئة الناخبة بالحاجة للاتصال مع الهيئة الحاكمة، وإنعاش الحياة السياسية في المجتمع، ودعم العملية الديمقراطية، والاتجاه نحو الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي وترسيخ عملية التداول السلمي للسلطة، والقبول بالآخر، وبين السعي المشروع والمنظم للوصول إلى السلطة والحكم بالوسائل السلمية عبر الديمقراطية وأدواتها المتعارف عليها.
هذه الإشكالية خلقت أزمة موروثة في الأحزاب اليمنية تتمثل في التعاطي الخاطئ مع ممارسة العمل الديمقراطي مخالفة شروط ترسيخ التجربة الديمقراطية في دولة نامية كاليمن اثبت التاريخ أن الأحزاب هي من تسببت في تراكم الأزمات السياسية فيها منذُ ما قبل الوحدة وما بعدها وهذا المؤشر الخطير كنا قد تنبهنا للإشارة اليه في تناولات سابقة بعد توقيع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وقبل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، بغية التصحيح والحذر من كارثة قادمة تستهدف إيقاع المجتمع في فخ الالتفاف على التسوية وإجهاضها لهشاشة هذه الأحزاب سياسياً وايدلوجياً وفقدانها للشرعية الشعبية منذُ فبراير 2011م الأمر الذي زاد من تعقيد وضعها المتأخر أصلا، الذي لا يمنحها الثقة في الإيفاء بأي تعهدات تطلقها للمجتمع الدولي والإقليمي، لتنفيذ ما عليها من التزامات ومتطلبات لإنجاح مهام المرحلة القادمة، وربما تؤدي هشاشتها وتبعية الفرد (العفوية) لها إلى وأد التسوية السياسية في اليمن لاسيما حين كان الخطر والخوف عليها في أعلى مستوياته ، قبل صدور القرار الأممي (2140).
وقد حاول كثير من المراقبين تنبيه المجتمع الدولي إلى هذه الإشكالية وتأكيدهم على أهمية الدور الذي ينبغي أن تقوم به الأحزاب السياسية في اليمن، اذا أحسنت تعاملها مع مقتضيات ومتطلبات القادم بإحداث التغيير المطلوب في سياساتها والتعاطي المسئول مع المستجدات الراهنة، إلا أنها لم تستفد من الفرص الممنوحة لها من المجتمع الدولي ودول الإقليم والتخلص من قيود الماضي الذي لازال يُطغى على تعاملها مع الوضع الراهن، رغم توقيع قادتها على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، التي ترتكز على التوافق وتلزم الجميع بتقديم التنازلات لإنجاح مهام التسوية السياسية في اليمن وتسهيل نقل السلطة للرئيس الجديد عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية، للانتقال إلى إنجاز مهام وبرامج المرحلة الانتقالية الحالية لحلحلة الملفات والقضايا الشائكة وتهيئة الظروف للبدء بوضع أُسس بناء الدولة الاتحادية القادمة.
لم تتعلم الأحزاب السياسية في اليمن من التجارب ودروس الفشل ونتائجها السلبية، وتناسى قادتها انه بفضل التسوية السياسية مُنحت لهم الحصانة وأُعتقت أعناقهم من العقاب بإغفال ملفات الماضي رغم ان الجميع في اليمن يدرك جيداً أنها المتسبب الرئيس في تشكل جذور الأزمات اليمنية المترابطة التي أدت إلى الالتفاف على أهداف الثورتين (26 سبتمبر ، 14 أكتوبر)، بل كانت أحد عوامل فشل الوحدة الاندماجية في عام 1990م فالطرفان الحزبان الموقعان على اتفاقية الوحدة انفرد قادتها بالقرار، عندما قدما المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية، لأنهما لم يحاولا انتهاج سلوك التغيير في سياستهما الإقصائية منذُ تأسيسهما التي سادت على إدارتهما للبلد قبل الوحدة وأدت في ما بعد إلى فشل نموذج الوحدة الاندماجية.. ثم انضمت الأحزاب الحديثة النشأة (لتشاركهما في الفشل)، فلم تحقق الأمل حين كانت الظروف مواتية بعد الحرب الظالمة في 1994م بإحداث التغيير السياسي المأمول منها" عقد المصالحة الوطنية الشاملة"، وتسوية الملعب السياسي للحفاظ على نموذج التوحد من خلال إحداث التغيير المطلوب في المنظومة السياسية لبناء دولة الوحدة الحاضنة للجميع.
اليوم تعود الأحزاب اليمنية لتثبت مجدداً في تعاطيها اللا مسؤول مع الدور المطلوب منها محلياً ودولياً لإنجاح مراحل التسوية في اليمن استمرار ها لمغالطة الرأي العام وبقائها رهينة للماضي المهيمن والرفض للسماح لولوج الجديد.
هذا الخلل يُنم عن غياب مبدأ القبول بالآخر عند هذه الأحزاب اليمنية ومنعها ميلاد الجديد المنتظر، وكأنها أشبه بمثبتات الحمل الذي باستمرار تعاطيه تؤجل عملية ميلاد الجديد، لتثبت ثانيةً أنها من أبرز التحديات التي تواجه العملية السياسية أن لم تكن هي المصدر المغذي للتحديات الأمنية والاقتصادية والتي تؤكد بجلاء عدم استعدادها لمتطلبات التغيير.
فمصدر الأزمة الحقيقية في اليمن يكمن في الأحزاب السياسية نفسها كمنظومة حكم توافقي عندما أصبحت لا تقدم القدر المطلوب من التعاون مع القرارات الأممية الرامية إلى الحفاظ على الاستقرار في اليمن، الذي بات وضعه يقلق العالم، إلى جانب استمرار ها في مغالطة الداخل والخارج واستمرار نهجها السياسي الذي بات مرفوضاً كونه منتجاً للازمات والمشكلات.
ولكون الوقائع التاريخية تؤكد استحالة تحول منتجو الأزمات والمشكلات السياسية إلى صانعي للحلول والمعالجات، إلا في حال توفر عنصر (التوبة النصوحة) .. وهذا الأمر نسبي تحكمه براهين لا اعتقد أن الأحزاب السياسية في اليمن بتياراتها المفرخة (غير المعلنة) تستطيع إثبات البراهين المقنعة عن التوبة والتخلي عن ولائها للفرد، طالما وتنطبق على بعضها مسميات (أحزاب الأشخاص) المتعارف عليها ضمن أنواع الأحزاب السياسية التي ارتبط تأسيسها بزعيم أو شيخ قبلي وهو الذي ينشئ الحزب ويقوده ويحدد مساره ويغير هذا المسار، دون خشية من نقص ولاء بعض الأعضاء له.
ومن هنا فان التغيير السلمي الذي ارتضاها الشعب اليمني كأداة للوصول للمستقبل لتحقيق التطلعات التي ينادي بها أبناؤه اصبح اليوم افضل الخيارات المتاحة القادر على تحقيقها بأقل كلفة، وعلينا جميعاً أحزاب وجماعات وأفراد الالتحاق في طريقة والتسليم به، والتخلي عن الماضي، ومعالجة انفسنا من أمراض الذات، وأن نغير أنفسنا بأنفسنا والعمل بقول الله تعالى (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11] لنصبح آهلين وقادرين على التعاطي مع هذه المجريات ومتطلبات التسوية السياسية في اليمن التي تحظى برعاية ورقابة دولية، لن تسمح لنا بالخروج أو إعادة إنتاج الماضي لتلك الأحزاب، بعد أن رمت بنفسها إلى صف مرمى المعرقلين للتسوية السياسية في اليمن لتضع نفسها أمام محك ومفترق طرق أما التغيير الذي يفترض أن تبدأ منها عملية تصحيح أوضاعها ونظرتها تجاه القضية الوطنية، وأما الرضوخ للموقف المنتظر من قياداتها الوطنية المعتدلة لحسم أمرها.
مدين مقباس
الأحزاب في مرمى معرقلي التسوية في اليمن 1417