لاشك أن تنصيب وزير الدفاع الأسبق عبدالفتاح السبسي رئيساً لمصر يمثل نقطة تحول في المشهد المصري تستدعى محاولاتٍ لاستقراء المشهد في ظل المقدمات المثيرة للجدل التي حظيت بها فترة حكم السيسي من وراء ستار, حيث كان الحاكم الفعلي لمصر طوال الفترة الماضية.
فهو بالنسبة للنظام ومؤيديه خطوة مهمة لإحكام السيطرة بعودة منصب رئاسة الجمهورية الى المؤسسة العسكرية حاضنته الطبيعية منذ 1952م .
وبالنسبة لرافضي الانقلاب ومعارضي النظام , فهو يمثل تأكيداً على ضرورة توحيد الصفوف نحو هدف واحد وأن المعركة ليست ضد أشخاص, مثل مبارك والسيسي ولكنها ضد نظام عميق تتبعه شبكات مصالح داخلية وخارجية وتدعمه قوى إقليمية ودولية يؤرقها بشدة أن يكون زمام الأمور في بد الشعب المصري .
ومن ثم فإن قوى المعارضة وفى القلب منها التيار الاسلامي وعلى رأسه جماعة الاخوان المسلمين في حاجة إلى تدشين مرحلة جديدة تستوعب الأهداف والوسائل والواجبات من أجل تأطير وترسيخ العمل الجماعي الاستراتيجي من ناحية التفكير والتنظير والتنفيذ, بما يحقق مكتسبات على الارض تُغيّر سريعاً من الواقع الذى يحاول الانقلاب فَرْضه طوال الشهور الماضية ويعجل بالدفع الى الحل عبر الضغط على النظام المأزوم فعليا أو يؤدى الى كسر الانقلاب.
وبالنسبة للقوى الإقليمية والدولية خاصة الداعمة منها للانقلاب, فإنه وإن كان قد أجهض ثورة الخامس والعشرين من يناير وخفض من تداعيات الربيع العربي وطموح شعوب المنطقة إلا أنه لم يحقق الاستقرار المطلوب ولم يمثل نهاية للاضطرابات السياسية والاقتصادية ولم يوقف الحراك الشعبي الذى مثل صعود السيسي الى سدة رئاسة الجمهورية وقودا جديدا بالنسبة للرافضين لما بعد الثالث من يوليو ومن ثم فالحذر والريبة هما سيدا الموقف خاصة بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي وفى ظل الكثير من التفاعلات المفاجئة أيضاً في المنطقة العربية, سيما ما يحدث في العراق والذى ستتجاوز تأثيراته بدون شك إلى المنطقة بأكملها وستمثل ضغطا على النظام في مصر وعلى القوى الدولية الداعمة .
المقدمات الواضحة تقود إلى نتائج محددة.
أولا :- الإجراءات الأخيرة التي أراد النظام أن يشرعن بها الانقلاب عبر انتخابات رئاسية عكست أمام العالم صورة مبتذلة لأى انتخابات رئاسية يمكن أن تُجرى في بلدٍ ما.
حيث كانت هذه الانتخابات كاشفة للحجم الحقيقي للظهير الشعبي للنظام وللسيسي شخصياً, وكذلك عكست حجم الصراع على السلطة بين مراكز القوى المتحكمة في الداخل المصري والتي تجلت بوضوح من خلال أداء الإعلام الموجه من قبل النظام خلال أول يومين للانتخابات والتي تحولت 180درجة في البوم الثالث وقبل التنصيب حيث عادت الى سيرتها الاولى .
ومن ثم فالشرعية التي استمات النظام ليتمسح بها أمام العالم الخارجي نزعها عنه وشككك فيها هذا العزوف التاريخي للشعب المصري عن التصويت ليضع السيسي والنظام بأكمله أمام معضلة مفصلية ربما تستدعى أن يقوم النظام ذاته مع التأزم المحتوم للوضع المصري إلى الطعن على انتخاب السيسي نفسه كمخرج لتنفيس الوضع والحفاظ على النظام مع التحولات الشديدة في اتجاهات الرأي العام التي باتت واضحة في الشارع المصري.
ثانيا : صراع الأجنحة الواضح داخل النظام وجه رسالة عبر الانتخابات بإظهار ضعف الحشد مفادها أنه لن يمكنك أن تحكم وحدك, لذلك فإن لوبى الدولة العميقة. (رجال الاعمال والشرطة والأجهزة الاستخباراتية والمؤسسة العسكرية) جميعها أو بعضها قادر على الإطاحة بالسيسى في أي وقت إذا اختلت توازنات المصالح فيما بينهم .
ثالثا :- ستشهد مصر تصاعدا في الاضطرابات السياسية والاقتصادية مع تبنّى النظام لمنهج المعركة الصفرية وطرح الحل السياسي جانبا خاصة ان النظام منذ فض اعتصام رابعة قد حول المعركة إلى معركة صفرية عبر اعتماد الحل الأمني كحل وحيد لا يرى النظام غيره.
ولا شك أن الحل السياسي ان لم يكن حلا شافيا لكل ما تعانيه مصر حاليا من أزمات فإنه على الأقل سيوقف عجلة الانهيار التي تدور بلا هوادة منذ الانقلاب.
غبر أن نموذج الحل السياسي يتطلب أن يتلاقى الطرفان على الحل ولا يصلح أن يكون بناءً على رغبة طرف دون الآخر وإلا أصبح الأمر إذعاناً وقبولا بالأمر الواقع وتسليما لكل ما تم من انتهاكات وخروج على الدستور والشرعية وهذا ما يسعى له النظام منذ الثالث من يوليو 2013 تسليم بشروط الانقلاب جميعها, وهذا مالا يمكن أن يقبله بطبيعة الحال رافضو الانقلاب لأنه يعنى القضاء على مستقبل هذا الوطن و"شرعنة" لمنطق القوة وإهدار للديمقراطية وركل للعدالة ومكافأة للمتلاعبين بإرادة الشعوب والمغامرين بالأوطان .
ولكن على كل الأحوال يرى المراقب للمشهد المصري أن هناك صراعا حقيقيا بين شرعية شفافة جاءت عبر انتخابات نزيهة وبين "شرعنة" مصطنعة جاءت على ظهر دبابة وان هذا الصراع يتجه تصاعديا مع مرور الوقت وأن كلمة الحسم فيها سيكتبها الحراك المستمر في الشارع المصري منذ شهور، وان جيلا جديدا من الشباب اصبح يمثل عنصرا فاصلا في هذه المعركة هو الذى ستصدر عنه الكلمة الحاسمة ربما قريبا .
رابعا : وبما أن السياسة والاقتصاد مرتبطان ببعضهما البعض فالمستقبل الاقتصادي لمصر قاتم للغاية بل أصبح كارثيا في ظل العودة المتغولة لرجال وسياسات ما قبل الخامس والعشرين من يناير المسؤول الأول عن التردي العام الذى عاشته مصر طوال العقود الماضية وحتى اللحظة ومن ثم فلن يتقلص الفساد بل سيتوحش ليعوض ما فاته منذ الخامس والعشرين من يناير . وليس أدل على ذلك من أن أغلب رجالات السيسي وحوارييه هم من ركائز عصر مبارك في شتى المجالات .
ومن ثم فإن طبائع الأشياء تقتضى أن من صنع الفساد وشرعن الإفساد لا يمكن ان تعهد اليه بالإصلاح والبناء ولن ينفع هنا معونات العالم اجمع ودعمه طالما بقيت حنفية الفساد مفتوحة والمؤتمن على خزائن مصر هو اكبر ناهبيها.
خامسا :- انهيار منظومة العدالة في مصر منذ الانقلاب وذبح القضاء على مذبح قرابين النظام وقد عبرت عن ذلك أحكام المحاكم وممارسات القضاء والنيابة طوال الفترة الماضية حتى أصبحت مصر محل إدانة من كافة المنظمات الدولية ووضعت مصر في أدنى درجات سلم التصنيف في شتى المجالات وهذا وحده كفيل أن يهدم أي دولة.
لذلك فمرحلة السيسي مقدماتها تؤشر على انها ستشهد توجها أكثر استبدادية من نظام مبارك على كافة الأصعدة خاصة ان هناك انهيارا واضحا في منظومة حقوق الإنسان والعدالة والحريات والتي باتت على أثرها مصر محل للإدانات الدولية المتلاحقة .
سادسا :- خطاب السيسي وضع خطوطا عريضة لملامح السياسة الخارجية المصرية وعلاقتها مع القوى الكبرى حيث بدا واضحا ان هذه الفترة ستكون أكثر الفترات في تاريخ مصر الحديثة انبطاحا للغرب وأمريكا وليس أدل على ذلك من تبنى النظام مشروع ما يسمى محاربة الإرهاب وما يحدث في سيناء والسياسة تجاه غزة وليبيا والاخوان المسلمين وغيرها من القضايا المحورية .
أيضاً, فالقوى الدولية الكبرى و على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والقوى الإقليمية الداعمة للانقلاب والمساهمة فيه تمثل بطبيعة الحال جزءا من المشكلة المصرية الآن وصانعة لها ومن ثم فإن السيسي سيكون مدعوما أمريكيا و من القوى الإقليمية (التي تدور في فلك أمريكا في المنطقة) والتي كانت الأعلى تمثيلا في حضور حفل تنصيب السيسي.
غير انه من الواضح ان صعود السيسي بخلفيته المعروفة وتوجهه الواضح (والذى تعتبره كثير من المراكز البحثية الامريكية القريبة من صانع القرار في البيت الأبيض جزءا من جيل جديد من قادة الجيش المصري اللذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة والراغبين في إبداء مزيد من التكيف مع التهديدات الأمنية سريعة التغير عبر أنحاء المنطقة كما أن تركيزه على مكافحة الإرهاب مقارنة بسابقيه من العسكريين ) يمثل فرصة أفضل لتعزيز المصالح الأمنية الاستراتيجية للولايات المتحدة ومن ثم فإنه وفقاً للدوائر الأمريكية والأوربية الرجل الأكثر مناسبة على الأطلاق لتحقيق مصالحهم خاصة في مجال التعاون الأمني المثمر والذى يمثل حجر الزاوية في علاقة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل مع النظام المصري.
كذلك فإن كثيرا من عوامل الضعف التي تحيط بصعود السيسي جعلت منه غنيمة باردة لهذه القوى الدولية وإسرائيل تحديدا، والتي عبرت قيادتها عن سعادتها البالغة ودعمها اللامحدود لوصول السيسي لمنصب الرئاسة ومن ثم ستسعى هذه القوى لمحاولة دعمه ان أمكن وهذا توجه واضج لدى الإدارة الأمريكية تحديدا (ودول الخليج التي تدور في فلك السياسة الأمريكية) .
وعليه فان الخطوط العريضة لمرحلة ما بعد تنصيب السيسي تشكلت ملامحها مبكرا وتصب جميعها في اتجاه واضح وهو أن مصر على صعيد العلاقات الدولية ستتعمق تبعيتها للخارج وستعيش مزيدا من الاضمحلال لدورها ومكانتها.
وعلى الصعيد الداخلي ستشهد مصر مرحلة غير مستقرة المتضرر الاول منها هو الشعب المصري كما ان المقدمات المخاصمة للديمقراطية التي تمثل الملمح الأساسي الأبرز للمرحلة وتجارب التاريخ وواقع النظم المشابهة في القرن المنصرم تؤكد ان استمرارية السيسي والنظام الذى يمثله باتت على المحك بعد انفتاح الشعب المصري على كثير من الحقائق وان الصراع بين أول شرعية منتخبة في تاريخ مصر وبين الشرعية المصطنعة لمرحلة السيسي ونقاطا تضاف يوميا الى حساب معارضي الانقلاب ستقض مضاجع النظام في الداخل وتعمق الريبة والحذر لدى الخارج وربما تكون كلمة الحسم وتحولات دراماتيكية أقرب ممّا يتخيل الجميع.
ــــــــــــــــــــــــــ
*الجزيرة مباشر مصر.
محمد الشبراوي
بعد تنصيب السيسي..مصر الى أين؟ 1086