صوت وقع أقدام خفيف وقت صلاة الفجر..!
بعضهم يركض بخفة كل يوم في مثل هذه الساعة..!
ليس من السنة الركض للمساجد!
دفعني الفضول للنظر.. طفلان دون الخامسة عشرة من العمر, يوقظهم أهلهم كل يوم, ويدفعون بهم نحو السوق لجلب لقمة العيش للأسرة..!
بعد شهور يسمع رفاق لهم عن الأخوين .. أصبح لديهم مال, ومصروف كبير, يتناول أكبرهم طعام الإفطار في المطعم مثل الكبار, ثم يعود ببقية أجرته وسلة خضار كبيرة لأمه التي تفرح به كثيراً, وقد كفت عن ضربه, وأضحت تعامله باحترام أكبر, وصار له مميزات أكثر في المنزل!
تزايد عدد الأطفال المتسابقين لتنازع الأجرة في السوق الكبير المجاور للحي..!
وجوه بعضهم حين العودة تبوح بصور معاناتهم في السوق, وينوء كاهلهم الصغير من حمل المسؤولية قبل الأوان.. مرأى عيونهم الصغيرة مكتظة بوجع عالم الكبار يجلد الضمير الإنساني..!
الطفولة مرحلة لهو, ولعب, وتأدب, إذا لم يشبع الصغير من هذه الحاجات في طفولته ستختل البنية النفسية له حينما يغدو رجلاً, وسيؤثر ذلك سلبا عليه في قابل حياته..!
الكون كله مبني على سنن خالدة, ومن ذلك قوله تعالى" إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة", فهذه الثلاث المراحل, التي لا ينبغي تحميل الإنسان فيها مسؤولية كبرى, كإعالة أخوته ووالديه, بل ينبغي إشباع نهمه للعب في أولها, ثم تفرغه للتعلم, واكتساب المهارات, وتوجيه طاقاته وتهذيبها في آخرها, وهي مرحلة المراهقة.!
للإنسان طاقة عطاء, وبناء مقدرة لو أستهلكها قبل الأوان سيصبح في مرحلة الشدة متكاسلاً, مضغوطا تحت إلحاح تذمر داخلي: لقد بذلت الكثير, وعملت منذ الطفولة وقد آن لي الخلود للراحة !!
وربما أنه سيجلس في البيت, ويدفع بصغاره للعمل دونما رحمة؛ ففاقد الشيء لا يعطيه!
سيتوقف عن العطاء في الوقت الخطأ؛ لأنه ابتدأ العمل والعطاء في الوقت الخطأ..!
منذ القدم تعلمنا المعادلة المأثورة: لاعب ولدك سبعا, وعلمه وأدبه سبعا, وصاحبه سبعا, ثم ارم له حبله على عاتقه..!
وفي تنبيه لطيف سمع كلنا قوله صلى الله عليه وسلم :
علموا أولادكم السباحة, والرماية, وركوب الخيل؟!
نعلمهم مهارات ليست سببا لجلب الرزق, والإنفاق على الأهل, لأن دورهم في فعل هذا لم يحن بعد؛ بل الواجب على الأهل تولي مسؤولية ذلك, حتى يشب الولد ويقوى عوده, وتتوق نفسه للكد, والعمل, والإنجاز, أما استباق ذلك ففيه هدم لطاقة الأبناء, وكسر لنفوسهم, وإزهاق لطفولتهم, وحرمان لهم من متعتها التي لن تعوض أبدا, وإعاقة لنمو شخصياتهم بالتدرج الفطري الذي خلق الله الناس عليه ..!
جرب واخرق شرنقة فراشة, وأطلقها قبل اكتمال مراحل النمو الطبيعية؛ وسترى كيف ستغدو فراشة معاقة, ضعيفة, محدودة القدرات!
اتركوا الأطفال يمرحون, ويدرسون, ويمارسون حقهم في شغب, ومتع الطفولة, ويتعلموا مهارات مناسبة, امنحوهم الأمن الغذائي, والنفسي ليكونوا مشروعكم الذي ينهض بكم في كبركم, وليصبحوا آباء رحماء بأبنائهم, ورجالا أقوياء, أسوياء, ومشروعا متكاملا للأمة ينهض بها من كبواتها, وليكبروا محتفظين بأرواح شفافة, معطاءة, يثرون الحياة, ويثيرون البهجة في الكون كفراشات ربيع قوية, مكتملة نابضة بالحيوية.!
نبيلة الوليدي
طفولة معاقة.. رجولة قعيدة.. !! 1188