تحتاج أمتنا في هذه المرحلة العصيبة والمعقدة من تاريخها الحاضر إلى إعادة النظر في كثير مما هو حاصل فيها وما زال يحصل حتى اليوم من أمور لم يعد من المجدي الدق على وترها الحساس الذي تسبب في كثير من تخلفنا كدول عربية أصبحت توصف في المحافل الدولية بالتخلف والسير في ذيل قافلة العالم المتحضر..
يحكي لنا التاريخ – على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول - أن الاهتمامات عندما تكبر ويرتفع بها أصحابها نحو آفاق رحبة من الطموح فإن الصعاب تذل لطلابها، وأعقد المشكلات تتفكك أمام عزم وإصرار الباحثين عن حلها، وأن الكتل من أحجار الصوان الأشد صلابة في الكون تهدها معاول الصمود والمثابرة عند من تسلحوا بهذه الأسلحة التي تقدم بها أصحابها نحو مراكز القيادة والريادة.
اليوم وللأسف الشديد الأخبار تطالعنا أنه وقبل فترة قصيرة شاهدنا في الإعلام كيف أن مؤسسة للاتصالات قامت ببيع أغلى رقم في الدولة التي تعمل فيها، وبالتأكيد سيكون أغلى رقم في العالم، عبر مزاد تنافس فيه أكثر من ألف "مزايد".
وبحسب الشركة، فقد طرحت 70 رقما "ماسيا" يمثلون نخبة الأرقام، وقدمتهم في مزاد علني، شهد شراسة في المنافسة أسفرت عن وصول الرقم (050777777) إلى مبلغ 7.8 مليون درهم، أي ما يعادل 2.2 مليون دولار.
وكان الرقم الأكثر تميزاً، شارك فيه أكبر عدد من المزايدين بلغت أعدادهم 700 مشترٍ، حاول كل منهم الظفر بالرقم.
يذكر أن المزاد أقيم في مكانين مختلفين في الوقت نفسه وعبر الستالايت، حيث كان المزاد الأول في فندق، في حين كان المزاد الآخر في ذات الوقت بفندق آخر
وشهد الرقم 0507777777 منافسة شديدة بين المزايدين الـ700، إذ حصد مبلغ 7.877.777 درهم خلال المزاد المباشر في كل من دبي وأبوظبي بفندق أرماني ببرج خليفة وقصر الإمارات.
أما الأرقام الـ10 الأولى من الباقة “الماسية” فقد بيعت بمبلغ 13.55 مليون درهم، لكن في المقابل، لم يتم كشف اسم المشتري للرقم الميز، بيد أن الشركة قالت عبر مديرها التنفيذي إن الشاري مواطن وسيستخدم الرقم بشكل شخصي.
لن أقول إننا أمام مهازل حتى لا اتهم بأنني ممن يدعون لتضييق الحياة ، ولان الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، صحيح ما يقال في هذا السياق, لكن أن تتفشى مثل هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربية, فهذا الذي ندعو للوقوف ضده نظراً لأننا مجتمعات يضربها الفقر من رأسها وحتى أخمص قدميها.
وبعض الناس في البلدان العربية لا يجدون ما يأكلون، إلا قليلاً من أوراق الشجر، فهل من الأخلاق أن نجد ممن فتح الله عليهم بالمال أن يصبوا اهتماماتهم في هذا أمور؟.
ما زلت حتى اليوم أتذكر ذلك المزارد الذي تحدثت الدنيا عنه ، وكيف كان مستهجننا في حينه حول بيع منديل الفنانة أم كلثوم بخمسة ملايين دولار لرجل صب النقود من اجل ذلك صباً، وكأنه قد كتب من أصحاب الجنة، ما هذه الأولويات التي يعبر عنها بعض أرباب الأمور الذين أراد لهم الله أن يكونوا أرقاماً صعبة في عالم اليوم خدمة للإسلام، بدلاً من ذرها هنا وهناك في أمور لا طائل منها، بل في أمور تعكس مدى الهزال الذي يعيشه أرباب المال العربي..
لن أقف كثيراً عند هذه الجزئية، وعند من يمثلها، دعونا بعيداً عن ذلك نتحدث في الشق الآخر عن الجانب المضيء لأصحاب الأولويات العملاقة التي يسمون بها مع أوطانهم نحو آفاق رحبة من المسئولية التي تنكبها لكثير من أبناء جلدتنا..
كلنا طبعا تابع المزاد العلني الذي أقيم على شرف حذاء ابن شهيد مسيرة الحياة أحمد العيني، فلقد أقيم احتفال في قرية اليهاري بمديرية ريف إب على شرف أم العز عبدالسلام التي اشترت حذاء الشهيد أحمد الرعيني الذي استشهد بعد مشاركته في مسيرة الحياة الراجلة بعدما قطع مئات الأميال حافي القدمين حتى تفطرت قدماه، وهو يحمل حذائه بيده.
وبيع الحذاء بثلاثة ملايين ريال يمني في مزاد علني، حيث تسلمت أسرة الشهيد الرعيني المبلغ.
وألقت أم العز عبدالسلام كلمة حيت فيها نساء قرية اليهاري «اللواتي أنجبن أحرارا قادوا ثورة اليمن نحو الحرية والتخلص من الاستبداد بقيادة الشهيد احمد الرعيني».
وقالت «لو قدمنا ملايين الدنيا لن نستطيع أن نعطي الشهداء حقهم لأنهم قدموا أرواحهم من اجل الوطن ومن أجل مستقبل الأجيال».
إننا إذن أمام مزادين أترك للقارئ أن يشكلهما ويصغهما بالطريقة التي يراها بحسب الألويات
وبغض النظر عن هدف المزادين فإن مبعث الألم في نفسي كان يدور حول سؤال مفاده: هل بالضرورة أن يصل الواحد منا لأنبل غاية عن طريق أتفه وسيلة؟’ إنها أسئلة محرقة لم أجد لها جواباً، والسبب الآخر للألم الذي يسكن النفس حداً لا يطاق هو أن تصل قيمة منديل الفنانة أم كلثوم خمسة ملايين دولار بينما قيمة الأمور الرفيعة في مجتمعاتنا والتي يحتاج إليها لا تساوي شيئاً.
لقد تذكرت هنا - وبشجن ممض - تلك الحكاية التي تروى عن الروائي نجيب محفوظ والراقصة الشهيرة فيفي عبده عندما التقيا صدفة - كما تقول الرواية - عند إحدى الإشارات الضوئية في القاهرة وكانت الراقصة تمتطي سيارة شبح آخر موديل، وكان الروائي الكبير داخل سيارة فيات متواضعاً فالتفتت فيفي عبده إلى الأستاذ نجيب وبعد أن حيته قالت له بكل تبجح: انظر يا أستاذ ماذا أعطتني قلة الأدب، وانظر إلى ما أعطاك الأدب، وقد صدقت، ولكن يا له من قول صدوق يصل إلى درجة الشجن! إنها مأساة ما بعدها مأساة لهذا الزمن العربي المعتل الآخر الذي يعلو فيه شأن هزات الوسط على من يهزون جهدهم وإبداعهم ونضالهم وكفاحهم وصمودهم لكتابة حضارة الأمة وترسيخ مجدها الثقافي والحضاري..
مروان المخلافي
بين مزادين..!! 1126