سؤال ربما حيَّر الجميع؛ لماذا لا نستطيع أن نربي أبنائنا بالطريقة التي نرغب أن يكونوا عليها؟, وإلى ماذا يعزي ذلك وما هي أسس التربية الحديثة وما وجه الاختلاف بين التربية قديماً وحديثاً وما الفرق بين التنمية والتربية؟.. كل هذه التساؤلات وغيرها تضعنا في محك حقيقي يولد حيرة طالما واجهتنا وان كانت لا تظهر بالحد الذي نوليه العجز إلا في سن المراهقة وخصوصاً عند الذكور منهم والسبب أن الجهد الذي يبذل في سن التأسيس ما بين السنة الأولى والثانية عشر يقف عند حد التنمية للأجسام, فالتربية عند بعض الأسر تعني الأكل والشرب واللبس ومن ثم الاعتماد على المدرسة في باقي الأمور وإن وجد من يسعي لتربية أبنائه بالطريقة المطلوبة, إلا أنها تبقى في حدود ما تربى عليه وفي هذا الحال تبقى قاصرة في ظل المتغيرات واتساع الفجوة بين زمن الأب وزمن الابن, لهذا يقول علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-" علموا أبنائكم فإنهم خُلقوا لزمن غير زمنكم", ما يعني أن نظل على اطلاع بمظاهر الحياة لتقييم حجم الضرر في ظل اتساع حجم الإعلام المرئي الذي أصبح منافساً ويلعب دوراً هاما في نقل المفاهيم التي لا تحظى بالقبول في مجتمعنا كسفور الفتاه واختلاطها بالشباب وخروجها معهم وإن كان هذا ليس موضوعنا كوننا نتحدث عن تربية الطفل لا الفتاة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما المرجح فعله كي نطمئن أننا قد أسهمنا من خلاله وكان له أثر إيجابي في تربية الأبناء؟.
قبل الخوض في الحديث عن الأسس والمفاهيم التي من المفترض أن نغرسها في أذهان أبنائنا, أود الإشارة إلى أن الطفل يخضع لمراحل مختلفة في التنشئة وليس ثم من يقلل من أهمية كل مراحل الوقت التي تبدأ: المرحلة الأولى من سن الثالثة أو ما يمكن أن نطلق عليه سن الاقتران لكثر ارتباطه الولد في هذا السن بأمه فهو لا يستطيع أن يميز بين الخير والشر, الوقت الذي حصيلة وجدانه وأحاسيسه بيضاء لا تحمل حقداً أو كرهاً لأحد, فالعالم في نظره جميل إلا أن الأجمل منه هي أمه..
الوقت الذي لا أمان له ولا انتماء في هذا العالم بغيرها وإن كان هذا يذكرنا بقول المصطفى حين سأله رجل" من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك" وظل يكرر والمقصود بالصحبة الفهم والتقدير وليس ثم من يحسن فهم الطفل حتى وان أصبح رجلاً غير أمه حتى وان تزوج وأنجب, فسبحان الله! لذا نجد العالم يجمع في حال انفصال الزوجين بحق الوصاية لها..
المرحلة الثانية: فترة تشكله وجدانيا ما بين الأولى والثامنة، حيث يحتاج إلى مساحة من الأمان يترتب على ضوء الثقة بمن حوله ففي حال واجه الطفل عنف أو تعذيب, سيتحول؛ إما ليكون متبلداً ضعيف الشخصية وهذا يجعله منكسراً فاقد الثقة بنفسه في حال كان ذكائه متوسط أو عدوانياً إن كان ذكاؤه مفرطاً, فعلى سبيل المثال نجد من يذهب بابنه إلى المدرسة في الوقت الذي مازال يعايش سن ما قبل التمييز- أي قبل السادسة.
فان كان حاد الذكاء استوعب كل ما يطلب منه وامكنه الانخراط ضمن الفريق بحيث يستطيع تلبية كل ما يطلب, أما لوكان غير ذلك فهذا يعني أننا نعرض هذا الطفل لصدام بينه وبين المعلم الوقت الذي هو غير معتاد على الالتزام فان اجبره هذا المدرس بالضرب أو حتى حاول إخافته لازمته عقدة الكره للمدرسة حتى بعد بلوغه السادسة وربما طال الأمر وانتهى بكرهه للدراسة وإن اجبر على حضور المدرسة بعد سن التمييز إلا أن الرغبة تظل مفقودة في حال كان هذا الطفل متوسط الذكاء.
وهذا يعني أن على الأبوين تجنب الشجار أمام أبنائهم حتى لا ننمي هذا السلوك العدواني كونه سلوكاً مكتسباً.
ثبت بالتجربة أن الأطفال ترصد انفعالات الكبار حتى على مستوى الحديث بصوت عالٍ, فيتم بعد ذلك اتباع نهجهم.
وليس الطفل فحسب من بإمكانه اكتساب هذ السلوك العدواني, فأبناء الحيوانات بإمكانها أن تكتسب هذا السلوك إذا ما تم تربيتها بالطريقة ذاتها و لي أن أذكر لكم من واقع التجربة" ونحن في القرية كيف كنا إذا أردنا أن نربي جرو للحراسة نفصله عن أمه بعد الولادة مباشرة بحيث يتم حرمانه من حنان أمه ومن ثم نقوم بتقطيع أذنيه وبعد ذلك نقوم بربطه بسلسلة من الحديد ومن حين إلى أخر نحاول الاعتداء عليه بالضرب وكل هذا من أجل أن ننمي فيه السلوك العدواني ليصبح بعدها شرساً وقابلاً للعظ وإن كان الهدف تأهيله ليصبح بعدها كلب حراسه".
فان شئنا معرفة متى يكون الضرب وسيله ناجعة تسهم في ردعه اذا لزم الأمر أدركنا عمره أولاً وهذا يعني أن لا يقل عمره عن عشر سنوات لقوله" علموهم لسبع واضربوهم لعشر" في حال انتهت معظم الوسائل التي من شانها توجيهه أو ردعه خصوصا لو أردنا أن نقيم جانباً سلوكياً معيناً" كالمعلم الذي أوكل إليه تربية ابن الملك فقد كان يدخل عليه أحيانا ويضربه بدون سبب وحين أصبح ملكاً بعد أبيه استدعى ذلك الشيخ ليسأله عن سبب ضربه دون ذنب اقترفه؟, فأجاب المعلم: لعلمي انك ستصبح ملكاً يوماً, فأردت أن أذيقك مرارة الظلم, لكي لا ترضاه لغيرك".
وان كان ما دفعني لسرد قصة هذا المربي والمعلم الفاضل هو استخدام الأسلوب الغير مباشر في التحفيز على سلوك محمود نرغب تعميقه في أذهان أبناءنا, ليس ما اقصده استخدام الضرب في كل شيء وما أعنيه أن ندرك مدى تأثير الوسيلة المستخدمة والوقت المناسب لها كأن نجد على قارعة الطريق قصاصات لآيات قرآنية أو جرائد ممزقة ربما حملت في طياتها بعض الآيات أو الأحاديث أو أسماء الله؛ فالأولى أن نسارع في البداية إلى رفعها في ظل وجود هذا الطفل مع إشعاره بالأسى لمدى الجرم الذي وصل به بعض أفراد المجتمع وأن هذه الأوراق من القصاصات التي يذكر بها اسم الله أو آياته مقدسة وبالتالي نقوم برفع هذه القصاصات, بعدها سنجد أن الأبناء من ذاتهم يقومون بهذا السلوك الحميد.
وان كان علينا قبلها أن نرسخ في أذهانهم الإيمان بخالقه والعمل على طاعته واجتناب نواهيه وما هي العيوب التي من المفترض اجتنابها كذلك ما هو مستحسن من العرف.
والسؤال الملح الآن يقول: هل بمقدورنا ذلك؟ وان كان الجواب: نعم لأن الأبناء على دين أباءهم والرسول يقول أولاد الكفار في النار.. لماذا يا رسول الله وهم صغار, فأجاب لأنهم لو كبروا لكانوا مثل آبائهم, ما يعني أننا نستطيع تشكيل أبنائنا بالطريقة التي نريد لكن علينا أن ندرك أن هذا يتطلب أن يبدأ اهتمامنا بهم منذ السنوات الأولى حسب ما أسلفنا وان سألني من يقول: وهل من شروط التربية الناجحة توفر الإمكانيات المادية كوسيلة مساعدة؟, والحقيقة أن هذا الأمر ليس له صلة في التربية وإلا لما وجدنا معظم الأسر الغنية ربما تتفوق في الانفلات وعدم الطاعة والاستجابة للآباء إلا أنها قد تجدي ثمارها حال نجحت الأسرة في تربية هذا الابن في هذه الحال نستطيع القول إنها قد تعينه في التغلب على بعض العقبات كاستكمال الدراسة أو الحصول على الوظيفة من خلال مؤهله العالي وإن كان هذا الأمر ليس له صلة بالتربية وقد يتفوق البعض ممن ينتمون إلى اسر فقيرة في حال أمكنه استكمال الدراسة والتخصص في مجال معين بسب الحافز, أي تحسين وضعه المادي وهذا يعني أن نجاح الفرد يتطلب إلمام الأسرة بالجوانب التي تزيد من وتيرة السلوك الإيجابي التي من المفترض توظيفها في تربية النشء.
كل هذه الأسئلة تدفعنا لتقصي ما بذاتنا من قدرات من الممكن توظيفها في تربية النشء خصوصا لو نجحنا في غرس بعض السلوك الذي يحثنا ديننا على غرسه فيهم والمتعلق بالنواهي كالسرقة والظلم والأنانية والكبر.. إلخ.
كذلك ما يحثنا عليه الدين كحب الآخر وإكرام الضيف، التواضع ومساعدة المحتاج، باختصار ما يتعلق بالسلوك الإيجابي وإن كان البعض منها يدرس في المناهج الدراسية إلا أننا لا نستطيع الجزم أن كل ما يؤخذ في المدرسة يعد كافياً وخصوصا في الجوانب المتعلقة في الأدب والتربية, إلا أن طريقة التوصيل ومدى أثرها بالأسلوب الذي يقدم تلعب الدور المهم في هذا الجانب وان جانس ما يقدم في المدرسة حدود فهم وعمر المتلقي, إلا أنها تجهل الزمن أو الظرف المناسب الذي يمكنه التأثير على حواس الطفل, فيبقى ما يعلم في هذا الجانب كالطعام الذي يقدم بارداً فمثلا عندما نكتشف أن طفلاً سرق شيئاً صغيراً وتجاهلنا الأمر بحيث لا نعير له اهتمام, هذا يعني أننا نُنمِّي في نفسه حب السرقة لأنه حينها يدرك حجم الفائدة والسهولة في الوصول إلى تحقيق رغباته, فنطيل من أمد سعتها في حال التغاضي عنه أما لو رحبنا بما قد جلبه من السرقة وأشعرناه بمدى سرورنا من ذلك حتى وان ادعى وقتها انه وجد هذا الشيء ولم يسرقه, نكون حينها قد أعطيناه الضوء الأخضر لان يكون بعدها سارقاً محترفاً؛ لذا فان علينا أن ندرك الوسائل التي من الممكن أن نتحلى بها لضمان نجاح التجربة المناط بها غرس السلوك الإيجابي الذي من المفترض أن يتحول فيما بعد إلى نمط حيا ة يترتب عليه اعتزازنا بأننا أحسنا التربية وعدم تنصل أبنائنا من تنفيذها فمن المفترض حال وصول الطفل وهو يحمل شيئاً لا يخصه أن نقيم الدنيا ونقعدها وان نولي هذا الأمر ازدراء كونه حقاً مسلوباً لا يخصه وبالتالي يعتبر سرقته والسرقة سلوك مشين يقل من قيمة الشخص ويعده منتقصة. هذا ما يفترض أن يوجه له من كلام، بعد ذلك نأمره بإعادة ما تم إحضاره, حينها سندرك أننا استطعنا أن ننجح في توصيل الدرس بالطريقة أو الكيفية المطلوبة بعد ذلك يفترض بنا أن نتتبع سلوكه ومحاسبته من أين لك هذا وكيف حصلت عليه فان وجدوا ما يدفعنا إلى الشك كان العقاب اشد وخصوصا عند الأطفال الذين يتراوح سنهم من السادسة إلى الخامسة عشر حتى يترسخ مفهوم السرقة انه عيب اجتماعي وديني ولا شك أن نجاح معظم الأسر في غرس مثل هذه المفاهيم واضح لأننا نجد من يصطحبه من أصدقاء السوء بعد ذلك وهو في سن المراهقة , ويتمكن من إقناعه بارتكاب سلوك بشع كمضايقة النساء في الطرقات والذهاب للنت لتصفح الصور الإباحية إلا انه لا يستطيع إقناعه بالذهاب للسرقة, ففي كليهما عيب وحرام.
وهنا ندرك ميزة ما رسخ في تنشئته من أنها أفعال منتقصه ومخلة بالشرف والرجولة عن ما أهمل كذهابه إلى النت أو التسكع في الطرقات وان كانت كلها مخلة بالشرف و الرجولة.
وما اقصده أن بعض الآباء يهتم في تربية أبنائه فيربيهم بنفس الأسلوب الذي تم تربيته عليه في الوقت الذي يجهل المتغيرات التي ظهرت في هذا الزمن ومدى ما تظهر من خطورة في إفساد الأخلاق كالقنوات الأجنبية والمجلات الهابطة لأنه لا يدرك خطورة هذا وكلما يدور في ذهنه, هي تلك المفاهيم التي تربى عليها في حين يتركه في سن المراهقة على اعتقاد انه قد كبر وبإمكانه حماية نفسه من بعض الأخطار لكنه لا يعبه إلى مدى الخطر الذي قد يصدر منه خصوصاً وان البعض من الأبناء لا تظهر عليهم نزعات الطيش و المشاكسة أمام آبائهم في الوقت الذي نراه في الظاهر طيب ومسالم و لا يظهر سلوكه المستهتر الذي يصل في بعض الأحيان حد الإضرار بالغير إلا في حال اختلاطه مع بعض أصدقائه؛ لذا يجب علينا مصاحبة هذا الطفل الكبير ورصد حركاته وان وجدنا صعوبة في ذلك لأنه وقتها لا يحبذ مصاحبة الأب السبب الذي يرى أنه قد يقيد حريته. وهذا يعني أن تكون صحبتنا للأبناء في وقت مبكر بحيث يأتي في هذا السن ونحن قريبون منه مع التأكيد أن صحبتنا لهذا الأبن المراهق تظل في حدود ستين في المائة.
لكن بإمكاننا الاطمئنان عليه من خلال من يصطحبهم لأنه وقتها يتقبل التوجيه من أصدقاءه بحسب فهمهم وقدرتهم على الإقناع ظناً منه انه قد كبر وأصبح قادراً على توجيه نفسه إلا أن هذا السلوك لا يتنافى مع ما تم ترسيخه لبعض المفاهيم والأسس التي تربى عليها, لان الثبات عليها أصبح جزءاً من تكوينه الروحي, ما نسميه بالضمير.
وهذا يعني أن ما يظهر عليه في هذا السن من سلوك لا يجُب ما قبله وان كان فيها ما يخل فهذا لان الأهل أهملوا توجيهه في هذا الجانب في الوقت الذي يستمد هذا السلوك كما أسلفنا من أصدقائه وهذا يعني أن نعترض لو وجدنا في صحبته من هو سيئ الخلق.
ولابأس أن تركنا له بعض الدوافع التي يراها بعينه تستحق الاهتمام مثل الاعتناء بنفسه اكثر من اللازم واختياره لملابسه وصفصفة شعره, فشعوره بما هو عليه من اختلاف كبنيانه الجسمي وتحول نظرة الناس إليه كتحرج النساء من وجوده بينهن كما كان في السابق والنظر إليه من قبل أصدقاء أبيه باستلطاف وإعجاب نظراً لاختلاف هيكله يدفعه لاستظراف نفسه ما يجعله أكثر اهتماماً بهذا الجانب كطريقة مشيه وهندامه الأمر الذي يولد في داخله العجب في نفسه فيذهب به الظن أنها من مكملات الرجولة, فيذهب به الظن انه قد بلغ الذروة في فهم ادراك الحياة حتى من أبيه خصوصاً لو كان الأب أُمياً لا يجيد القراءة؛ لذا نجد منهم من تظهر عليه بعض الانفعالات عند الجدل حول موضوع ربما شعر أبيه ببعض الامتعاض من طريقة طرحه وأسلوبه في النقاش على غير ما كان عليه قبل الدخول في مرحلة المراهقة, فهو يعي نفسه واعياً القدر الذي لا يتيح لهم حتى نقاشه إلا أن هذا الأمر لا يهم, فالأيام كفيلة أن تشعره بأن فهمه وإدراكه حينها كان محدوداً وخاطئاً.
وما أود التنويه إليه: أنه لا يجب التغاضي عليه في حال إعلاء صوته أمام من يكبره من الأسرة أو رفضه لبعض التوجيهات, فالسكوت والتساهل بحجة انه مراهق ويمر في فترة أفعاله وتصرفاته غير محسوبة يزيد من إمعانه وتمرده, فيما يصبح حتى بعد انتهاء المراهقة جزءاً من سلوكه.. فالحذر من التساهل في هذا الأمر..
عبد الوهاب البنا
كيف نربي أبنائنا؟! 1201