فيما كان أعضاء مجلس النواب يناقشون الأسبوع الماضي مشروع قانون الإعلام المرئي والمسموع ويسعون إلى التوافق على صيغة مقبولة لمخرجات ذلك القانون قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى التسليم بان نقاط التعارض هي اكبر من نقاط الالتقاء .. كان الرئيس عبدربه منصور هادي هو من يدعو في ذات الوقت وسائل الإعلام الرسمي والحزبي والأهلي إلى ترشيد خطابها والارتقاء برسالتها إلى مستوى التحديات التي تواجه اليمن وقبلها كان الزميل الإعلامي احمد المسيبلي الذى يقدم برنامجاً أسبوعياً في إحدى القنوات الفضائية قد اتصل بي هاتفياً ليسألني عن وجهة نظري في أداء الإعلام اليمني بتنوع وسائله وتعدد اتجاهاته في هذه المرحلة الحساسة والخطيرة التي يتعرض فيها الأمن اليمني ووحدة النسيج الاجتماعي لتهديدات حقيقية مفتوحة على كل الاحتمالات ومن الواضح أن مثل هذه التفاعلات تعكس قلقاً لدى شريحة واسعة في السلطة والقاعدة المجتمعية بان تجاذبات الإعلام قد دخلت حالة من اللامبالاة تشوبها ضبابية كبيرة, لا الشعب قادر على فهمها ولا النخبة السياسية قادرة على تفكيكها ولا القيادات الإعلامية قادرة على تفسيرها وهو ما يطرح معه العديد من التساؤلات؛ كيف لنا في هذا البلد تنظيم خلافاتنا الطارئة منها و المزمنة والتوافق على تجنيب البلد ارتدادات البراكين المتفجرة الناتجة عن هذه الخلافات وتحديد الحد الأدنى من القواسم المشتركة التي خرج بها مؤتمر الحوار لتكون نقطة الانطلاق لمسيرة إنقاذ البلاد والعباد والبدء في بناء الدولة الجديدة.
وهناك إعلام يعمل على شق صفوفنا ويمعن في تمزيق نسيجنا ويصب الزيت على نيران الفتن ويتلذذ بشجاراتنا ويعمل على تعميقها إلى درجة لا يكاد يخلو شارع أو حارة في مدينة يمنية من شجار أو اكثر, فصرنا نتشاجر في المساجد ونتشاجر في أسواق القات ونتشاجر في مرافق العمل ونتشاجر أمام محطات البنزين وكذا في المدارس والجامعات ونتشاجر في صالات الأعراس والمأتم ونتشاجر حتى ونحن نيام بصورة يعجز معها كافة علماء النفس في العالم في إيجاد تفسير معقول لهذا النمط من السلوك المتشنج والمنفعل.
لذلك لا أريد هنا الهجوم على احد فلست معنياً بذلك ولست بصدد مدح وسيلة إعلامية أو ذم أخرى لقناعتي أن كلا الأمرين يفترقان مع الصحة, حيث أن إعلامنا ليس بحاجة اليوم للذم أو المدح وإنما بحاجة إلى واقعية في التقييم بعيداً عن صفات التمجيد والتبجيل ونعوت الذم والقدح والعتاب واللوم.
شخصياً فإني مع التعدد والتنوع الإعلامي الذى اخذ بالتشكل في اليمن خلال السنوات الأخيرة ومع أن يكون لدينا إعلام متحرر يؤدي وظيفته بمعزل عن أية ضغوطات أو محاذير وان يصبح هذا التنوع والتعدد مضماراً للحوار والنقاش والجدل أيضاً وعين المواطن في نقد الأخطاء وكشفها والمطالبة في تصحيح إعوجاجاتها, إلا إنني في نفس الوقت لست مع التسطيح والانفلات المهني الذى يسلب التعدد الإعلامي مدلوله كمعبر عن حركة المجتمع والدولة ويفقده مصداقيته وشرف رسالته, كما اني لست مع موجة السجالات والشحن والتهويل وحملات الدس والتخوين التي يستخدم فيها الإعلام كلسان للسياسيين؛ إما بدافع الهجوم على الخصوم وتشويه مواقفهم والانتقاص من دورهم أو رغبة في خلط الأوراق لهدف ما أو لخلق مزيد من التشويش وافتعال المشكلات والأزمات لتيئيس المواطنين وزعزعة ثقتهم بالمستقبل حتى يتسنى لهؤلاء السياسيين المحافظة على نفوذهم وامتيازاتهم وهيمنتهم لمدى أطول.
واتساقاً مع هذه الحالة؛ فلست مع أن يصبح الإعلام أسيراً لقوى لا تحسن استعماله رغم قناعتي بأحقية أي يمني أو فريق سياسي أو حزب أو تنظيم أو حتى مؤسسة تجارية أو ناد رياضي بان تكون له وسيلته الإعلامية لكن ضمن معايير وقواعد مؤسسية صارمة تتحدد فيها وظيفة هذه الوسيلة وشروط من يعملون فيها ومن يقومون بإدارتها وبما يحول دون أن تصبح المنابر الإعلامية فروعاً حزبية أو نوافذ طائفية أو شرائحية أو فئوية أو مذهبية أو جهوية لا تجد مكاناً لها إلا عن طريق مخاطبة الهويات ما قبل الوطنية والدولة الجامعة, حيث وان من مصلحة اليمنيين جميعاً بل ومن مصلحة هذه الوسائل أن تقدم نفسها للمتلقين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم وميولاتهم كجامع للمشتركات الوطنية لكون أي منهج يخالف ذلك إنما هو الذى سيزيد مشاكلنا تعقيداً ولن ينتج عنه سوى ضياع الوقت والجهد وربما الدماء.
إن تاريخ الأمم والشعوب لم يخلُ قط من الصراعات والتطاحنات من اجل الغلبة والهيمنة وليس بين اليمنيين من لا يستوعب حجم التعقيدات والتحديات المحيطة ببلدهم في الوقت الراهن وان هذه التحديات أصبحت تشكل خطراً على حاضرهم ومستقبلهم وكذا مقومات تماسك النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية والعيش المشترك وليس بين اليمنيين أيضاً من يراهن على إمكانية معالجة هذه التحديات بكبسة زر أو بوصفة سحرية على اعتبار أن ما نتعرض له اليوم هو حصيلة لسلسلة طويلة من الأزمات تلاحقت عبر العقود ومع ذلك فان التسليم بهذا الواقع المرير والاستسلام لمفاعيله المدمرة يعد أمراً مخجلاً لا ينبغي القبول به.
لقد ادرك البعض وربما وبشكل متأخر أن التجاذبات التي تدار عبر وسائل الإعلام هي من تدفع بهذا الوطن إلى أجواء الصراع والتشرذم إنْ لم تعيده إلى المربع الأول والى واقع ما قبل مؤتمر الحوار الوطني الذى جرى فيه التوافق على خارطة طريق رسمت ملامح المسار الذى ننشده لنا ولأجيالنا القادمة وفي ضوء هذا الإدراك يصبح من الواضح أن الوصول إلى ذلك الهدف هو من يقتضي من الجميع إعادة النظر في سياساته المعلنة وغير المعلنة وتهدئة إعلامه المنفلت لما من شأنه تخفيف الاحتقانات والتشنجات والانتقال إلى مشروع الدولة الحديثة والعادلة والقادرة على حماية أبنائها كل أبناءها على درجة من المساواة ودون أي تمييز أو تهميش أو إقصاء لأحد.
نستطيع أن نصنع لأنفسنا شكلاً متفرداً من الإعلام يعمل على تكريس الشراكة الوطنية والهوية الجامعة والمواطنة المتساوية والعدالة والكرامة للجميع واذا ما اتفقنا على هذا المبدأ فلسنا بحاجة- كما يطرح البعض- إلى استيراد تجربة جاهزة تحاكي تجربة الإعلام البريطاني أو الأمريكي أو حتى الهولندي, كما أننا لسنا بحاجة للانبهار بقنوات فضائية أو صحافة تمارس اشد أنواع النقد المتحرر ضد الآخرين لكنها تصمت صمت القبور عن نقد ذاتها أو الجهة التي تنتمي إليها. كما أننا لسنا في حالة من الترف تجعلنا ننحو باتجاه القفز على واقعنا الاجتماعي والثقافي والتعليمي والقبلي والمشكلات المحيطة بنا فلسنا في مستوى التقدم الذى وصل اليه المجتمع الأمريكي, كما أننا لسنا بمستوى وعي المجتمع البريطاني ولسنا دولة مستقرة راسخة أو مجتمعاً منسجماً يتحرك بروح الخلية الواحدة كما أن لا احد يستطيع الادعاء بقدرته على استيراد ضمائر جاهزة تقوم بإعادة السوية إلى إعلامنا الوطني أو تخفيض السقف المرتفع لهذا الإعلام لان العصر هو عصر الإعلام الحر والمفتوح ومع ذلك يمكننا إيجاد إعلام يعبر في المحصلة عن الحراك المجتمعي بتوازن وموضوعية وقبل ذلك بمهنية اذا ما اعدنا تقييم الواقع الإعلامي خلال العقدين الماضيين بشكل منهجي وعلمي دقيق.
فمن واقع التجربة نجد أننا ومنذ فترة ليست قليلة قد استبدلنا المفهوم الذى يربط الحرية بالمسئولية بمفهوم جديد يربط الحرية بالمهنية والاحترافية وهو تصور حديث وراق إلا أن هذا المفهوم لم يجد من يتبناه من المؤسسات الإعلامية أو من الجهات الرسمية أو داخل نقابة الصحفيين اليمنيين والتي كان يعول عليها أن تقوم بإنشاء صندوق للتدريب والتأهيل يجري تمويله من الدولة ومن عائدات الإعلانات التي تحصل عليها الوسائل الإعلامية حيث وانه وكلما كانت درجة الاحتراف عالية تمكن الإعلامي والصحفي من ممارسة دوره ومسؤولياته على قاعدة المهنية التي تحميه من الوقوع في التضليل أو الافتراء أو الابتعاد عن الحقيقة ولابد أن هذا الخيار اصبح مطلباً ملحاً وضرورياً بعد أن اصبح لدينا عدد هائل من الصحف والقنوات الفضائية والإذاعات المحلية والتي يبدو أنها قد اضطرت إلى الاستعانة بالعديد من الكوادر غير المؤهلة أو المدربة أو التي تمتلك خبرة كافية تسمح لها بعدم الانزلاق في الهفوات أو الوقوع تحت تأثير السياسيين الذين باتوا يستخدمون الإعلاميين كأدوات لتنفيذ أجنداتهم بطرق غير بريئة.
ويكتسب هذا الخيار أهميته أيضاً من كونه الذى سيفتح الباب أمام الصحفيين والإعلاميين لتنمية ملكاتهم بمتطلبات الاحتراف والمهنية التي تجعلهم قادرين على تجاوز أية اجتهادات تسعى إلى تضيق الهوامش أمام العمل الصحفي وذلك بعد أن تأكد أن اقتران الحرية الصحفية بالمسئولية ليست اكثر من شعار مطاط اذا ما علمنا أن المسئولية هي حالة ضميرية تضيق وتتسع تبعاً لطبيعة تفسيرها, أما ارتباط السقف بالاحتراف والمهنية فان المحدد هنا يصبح هو الوعي وقدرة الصحفي على التحري فيما يكتبه أو ما يقدمه من معلومات.
من المؤسف حقاً أننا الذين لم نهتم بجوانب التأهيل والتدريب مع أن البنية التحتية موجودة لكنها شبه معطلة ومن شأن استخدامها رفع السوية للمشتغلين في هذه المهنة وصقل مهاراتهم بشكل يجعلهم اقرب إلى الالتزام بالموضعية ونقل الحقائق للناس كما هي لا كما يتخيلونها أو يتخيلها غيرهم وعندها سندعوهم لان يكونوا رسل سلام ووفاق ووئام وإما أن يرحلوا ليأتي من يقدم جوهر الرسالة الإعلامية بمضمونها النقي والقيمي والوطني الذى لا يخضع للرغبات والأهواء ولعبة الأصابع المزدوجة التي لا تحترم شرف الكلمة.
علي ناجي الرعوي
الإعلام .. لعبة الأصابع المزدوجة!! 1959