لأن شريعة الإسلام هي الشريعة التي ختم الله بها الشرائع، وجعلها صالحة لكل زمان ومكان، ومنقذة للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن الله جل وعلا قد جعل من خصائص هذه الشريعة المرونة، واليسر، وجعل الخطاب المعرِّف بتعاليم هذه الشريعة، قابل للتجديد في كل زمان ومكان بحسب ما تقتضيه المصلحة، وتقرره الحكمة التي جاء الأمر بلزومها في محكم التنزيل بقول الله تعالى:(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النَّحْل: 125]. لنقدم خطاباً شرعياًمٌحدِداً وراسماً لمشاريع التحضر والنهوض التي تبرز الصبغة الحضارية والنهضوية لهذا الدين، خصوصاً في واقعنا المعاصر الذي بدا فيه الإسلام يواجه عنت الجهلة من أبناءه ممن ضاق فهمهم له فخنقوه، وجدل أدعيا المدنية والتحضر ممن ناصبوه العداء فرموه بمنجنيق الحقد والكراهية،لتكن الصورة التي نجادل بها عن الإسلام هي الصورة الحسنة المثلى، التي تتجسد فيها نظم ومناهج ومشاريع وقيم وأخلاقيات: (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وهذه هي الطريقة التي نجدد فيها أمر هذا الدين ليقود سفينة البشرية التائهة، ونكون ممن قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) فنكون ذلك الغرس الذي ذكره صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي قال فيه: (لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ)
الدواعي:
غدا الخطاب الديني اليوم أكثر من أي وقت مضى أحوج ما يكون إلى إعادة النظر في أولوياته،ومنطلقاته، ووسائله، ليفي بتطلعات الشعوب، وليواكب المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم والتي تحتم عليه أن يكون خطاباً موجِها للمسار، ينفتح على الأخر ليستفيد منه ويؤثر فيه، وفقاً لقاعدة "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه طالما كان اختلافنا معتبراً" ويرسي قيم التعايش على أسس جامعة مشتركة، ويحث على إحياء قيمة الحوار كمرجعية حياتية إنسانية وإسلامية يجب أن نرجع إليها عند إدارتنا لاختلافاتنا، ليصبح الحوار لا الصدام المسلح سند الحق الذي يعتقده صاحبه، فالواقع اليوم بتعقيداته خصوصا في بلدنا هذا اليمن وفي بقية البلدان العربية يحتم علينا أن نمتلك زمام المبادرة فنبادر لردم الهوة القائمة بين الخطاب الديني وهموم وتطلعات الشعوب، ولن يتأتي لنا هذا إلا بتقييم مسار الخطاب الدعوي للفترات الماضية، مع إعادة النظر في أدواته ووسائله، فالخطاب الديني في الفترات الماضية أصابه القصور إلى حد كبير في باب الشمول والعموم، حيث اقتصر مضمون الخطاب ليركز على الجوانب التربوية الإيمانية المحضة،ولم يصل في أغلب محطاته إلى أن يقدم الرؤى والتصورات التي من شأنها أن تسهم في توجيه حركة الحياة، وتنهض بواقع المجتمع، لتحقق هذه الأمة الشهود الحضاري على الأمم وهي المهمة الربانية التي أنيطت بأمة محمد صلى الله عليه وسلم عبر الخطاب الرباني الوارد في القرآن بقول الله جل في علاه:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(143) البقرة)رغم أن تركيز الخطاب الديني على الجوانب التربوية الإيمانية مطلوب ومرغب فيه لكن مع ضرورة أن نعي أن العكوف والتصميم عليه قد يسهم في جعل الناس يفهمون الإسلام فهما قاصراً ضيقاً، ينشأ عنه تطرف يميني ويساري، يمينيينادي بضرورة إعمال السيف على رقاب الناس ليدخلوا في الإسلام، ويساري يدعوا إلى التحلل من قيم الإسلام كون الدين في الأساس رجعي متخلف ولا يسهم في تقدم عجلة الحياة.
إن الخطاب الديني القاصرلا يسهم في تقديم الإسلام على أنه شريعة فيها الحل لكل المعضلات التي تواجه العالم، فمانحتاجه اليوم خصوصاً بعد أن صار العالم قرية صغيرة واحدة أن نقدم الإسلام في ثوبه السابغ القشيب لنصحح التصورات الخاطئة التي علقت في أذهان الكثير عنه، ذلك أن رسالة الإسلام التي حملها نبينا صلى الله عليه وسلم وكلف الناس القيام بحمل أعبائها في زمن الناقة والجمل وفي زمن العزلة جراء غياب وسائل الاتصال، رسالة شمول تشمل بتعاليمها كل جوانب الحياة الإنسانية، إلى جانب مخاطبتها لعامة الناس في مختلف العصور والأزمان، فلا يصح إذا أن نبقي على خطابنا الديني رتيبا متقوقعافي واقع يواجه فيه الإسلام هجمة شرسة تهدف إلى الانقضاض عليهلنسفه كقيم وطمسه كهوية، وبالذاتحينما غدا بعضنا مبهور بما يأتي من عدونا الذي استغل جهلنا بقيم ومعتقدات ديننا،فعمل على تعميققطيعتنا بماضينا الذي شهد القاصي والداني بأن أجدادنا كانوا فيه أرباب العلوم وقادة النهوض الحضاري في مختلف الجوانب الحياتية حينما فهموا الإسلام على حقيقتهليمهدوا بذلك النهوض للنهضة العالمية المشهودة اليوم.
التداعيات:
بلا شك أن التجديد في الخطاب الديني له تداعياته في حاضر ومستقبل المسلمين وحتى غير المسلمين، ذلك أن الخطاب الديني حينما يواكب الأحداث ويلبي تطلعات الأمة في مختلف مجالاتها الحياتية، سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو التربوية والتعليمية، أو الصناعية والتكنلوجية، فإن التجديد بهذه الصورة يسهم في تقديم الإسلام على أنه فكرة إنقاذ وإسعاد للبشرية جمعا، التي ارتقت في الجوانب المادية وأخفقت في تحقيق الارتقاء الروحي، في الوقت الذي جاءت تعاليم الإسلام لتحقق الارتقاء الروحي والمادي للبشرية،فتقديم الإسلام بخطاب عصري يلبي احتياجات الناس المادية والروحية، له من يؤيده ويتبناه،كما أن له منيعارضه ويرفضه ويري فيه نقضاً لعري الإسلام، في جهل مطبق بالغيات والوسائل، من أولئك الذين ضاقت عقولهم ولم تتسع مداركهم ليفهموا الإسلام بمقاصده السامية التي أرادها الله، وفهمها من عاشوا في خير القرون، حتى باتت معارضة المعارضين منعكسة على خطابهم المكرس للعزلة والانطوائية التي تبقي على المسلمين عالة على غيرهم، دون وعيبالتأريخ الذي تثبت وقائعهأن العدو حينما دخل ديار المسلمين في القرون السابقة ما دخلها إلا ليزيح الإسلام عن الصدارة التي كان قد أحرزها، حينما قدم للإنسانية حضارة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش ظلاماً دامساً، وكان ملوكها يرسلون أبناءهم للدراسة في جامعات المسلمين سواء في بغداد حينما كانت حاضرة الخلافة العباسية الإسلامية، أو في الأندلس التي كانت بوابة الفتح الإسلامي الحضاري لأوربا، فالحضارة الإسلامية التي جعلت الغرب يقدم على احتلال ديار المسلمين لم تكن إلا نتاج خطاب إسلامي رفيع، حرر الطاقات وأطلق القدرات، وشجع المواهب، وأستطاع أن يلبي حاجات ومتطلبات ذلك العصر وعصور بعده، ولذا كانت جهود المحتل تتجه صوب طمس معالم الإسلام حتى لا تقم للمسلمين قائمة، وحتي لاتتكرر حضارتهم مرة أخرى، إدراكاً منهم لحقيقة أن الإسلام عملاق قد يمرض لكنه أبداًلا يموت، وقد ينام لكنه سرعان ما يستيقظ، ولأن العدو يدرك تماماً هذه الحقيقة فإنه عمل ويعمل ليل نهار على جعل الإسلامبمثابة أفيون للشعوب، ولذا رأينا كيف تم مواجهة أرباب الخطاب الإسلامي العصري الداعي إلى ضرورة أن تتحرر الأمة وتحقق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات لتملك على إثر هذا الاكتفاء قرارها، من قبل المجتمع الدولي وبعض الدول المؤثرة على مسار السياسة الدولية، ورأينا بالمقابل كيف تحولت بعض الجماعات الإسلاميةالمنكفئة على ذاتها إلى أدوات تحركها قوى الهيمنة العالمية لضرب الإسلام من داخله، وهذا ما حدث بالفعل، وشهدناه في بعض الأقطار العربية اليوم، ورأينا مآسيه دماء وأشلاء ولاحول ولاقوة إلا بالله.
المنطلقات:
الخطاب الديني في مجمله ينطلق من منطلقات مهمة أهم هذه المنطلقات التيسير ورفع الحرج، وتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وإقامة الحجة، والتدرج في البلاغ والامتثال، وهذه المنطلقات هي نفسها المنطلقات التي ينبغي أن تراعي ويجب أن يرتكز عليها أي جهد للتجديد في الخطاب الديني حتى لا نحيد عن الغالية التي نسعي لها، فاليوم ومع التوسع الذي يشهده العالم نجد أننا أحوج ما نكون لفقه نخرج به الناس من العنت الذي قد يجدونه جراء انفتاحنا على العالم وانفتاحهم علينا وجراء الضخ الإعلامي الهائل، فلا بد علينا كي نخرج المسلمين من دائرة العنت أن لا نبقي في مربع الحرج بل ينبغي علينا أن نتوسع في ابتكار وسائل عصرية حديثة تجعلنا لا نواجه الأخر بسلاح الحرام وإنما بسلاح البديل الشرعي، المحقق للمصلحة المعتبرة شرعا، والمقيم للحجة على الناس، في تدرج ينقلنا بفقه من مرحلة التكوين إلى مرحلة الاستضعاف ثم التمكين، فنكون على دراية تامة بفقه كل مرحلة ومتطلباتها وأولوياتها.
إن انطلاق الخطاب الديني في كل مراحله من هذه المنطلقات يجعلنا نسير نحو السداد والمقاربة حيث الأمر النبوي الذي جاء فيه: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا) وفقه السداد والمقاربة فيه السعة واليسر ورفع الحرج ودفع المشقة وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة وبه تتسع مساحة إقامة الحجة، وبه يحصل التدرج في الامتثال وينتفي التشديد المنفر من الامتثال، فيصبح متحقق في الأمة قوله جل وعلا:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) فتتحقق الوسطية والتبشير، لا الغلو والتنفير..
نجيب أحمد المظفر
تجديد الخطاب الديني..!! 1537