من المقرر أن تنطلق هذا الاسبوع عملية صيغة مشروع مسودة الدستور الجديد للدولة الاتحادية القادمة بعد أن عكفت اللجنة المكلفة بإعداد هذه الوثيقة الهامة على فرز مخرجات مؤتمر الحوار الوطني والتى تشكل الحامل الرئيسي لدستورالدولة الاتحادية التى سينتقل اليها اليمنيين بعد أكثر من نصف قرن من النظام المركزي والذى تخللته الكثير من المنعطفات والتحديات والصراعات والحروب والنكسات التى كان لمفعولاتها ربما الأثر البالغ في عدم انتقال اليمن الى دولة حديثة وعصرية يشعر فيها كل مواطن بالانتماء الى كيان سياسي جامع تتحقق في كنفه قيم المواطنة والمساواة بعيداً عن الولاءات القبلية والجهوية والمذهبية الضيقة.
ولا بد أن لجنة صياغة الدستور قد لاحظت أثناء عملية الفرز لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني أن الفِرق التسع التي تولت مهمة تلخيص تلك المخرجات كان لكل منها اجتهاداته ومصطلحاته ومفهومه ورؤيته وبالذات في القضايا المحورية والجوهرية التى لم يكن بوسع أي من هذه الفرق القفز عليها لارتباطها بمعظم الموضوعات والقضايا والعناوين الرئيسية التى جرى التحاور حولها ومن ذلك موضوع الهوية الوطنية والذى دار حوله الكثير من الجدل على مستوى كل فريق وقد كان من الطبيعي أن تتعدد وجهات النظرحيال هذا الموضوع وغيره وأن تجد لجنة صياغة الدستور نفسها تقف أمام أكثر من قراءة أو أطروحة تفسيرية وأن هناك من قدم تعريفاً للهوية الوطنية بوصفها الوعاء الذى تنصهر فيه كل الخصوصيات في اطار مايحافظ على وحدة النسيج الاجتماعي ووحدة القرار السياسي ووحدة الدولة الاتحادية وفي المقابل فان هناك من ذهب به الاجتهاد الى تعريف الهوية الوطنية بشكل ملتبس يرى في علوية الهوية الوطنية الواحدة أمراً مجحفاً للهويات الفرعية واحقيتها في التعبيرعن ذاتها بعيداً عن أي هيمنة من خارجها .. وكما أن كل فريق قد لجأ الى التعريف والطرح الذى يتفق وثقافته وموجهاته السياسية حيال موضوع الهوية الوطنية فان الحال نفسه لم يختلف مع بقية موضوعات الحوار وبالذات ما كان منها مثار تباين شديد في المواقف والرؤى كالعلاقة بين مركز الدولة والاقاليم وحدود صلاحية كل منهما خصوصا وانه لا يوجد نموذج محدد تاخذ به الدول الاتحادية او الفيدرالية بل أن كل دولة من هذه الدول قد ابتدعت لها نظاماً يتفق مع خصوصياتها والظروف المحيطة بها.
وأمام هذه الحالة فإن ما يعول على لجنة صياغة الدستورهو انتاج ارضية تشريعية وقانونية لعقد اجتماعي جديد يتجاوز المشكل الناتج عن تباين وتعارض مواقف ورؤى المكونات السياسية والحزبية انطلاقاً من إدراك هذه اللجنة ان ما جرى داخل مؤتمر الحوار قد اعتمد في جانبه الاكبر على التوازنات والحلول التوفيقية وهو ما لا ينبغي له ان يشكل قاعدة لصياغة الدستور الجديد إذا ما أردنا أن يتميز هذا الدستور عن الدساتير السابقة التى أفسحت المجال لتناقضات كثيرة وصراعات متعددة الاقطاب عجزت القيادات والحكومات السابقة عن مواجهاتها لتعمد الى أساليب المراضاة وسياسات التوازنات الهشة واجراء التعديلات المتكررة على تلك الدساتير التى لم تتحول الى مرجعيات يثق بها الناس ويلتفون حولها.
إن اعتماد الحلول التوفيقية داخل مؤتمر الحوار وإن كان قد رأى فيه البعض الوسيلة الناجعة لتطويق الخلافات بين القوى السياسية لكن عند كتابة الدستور الجديد فلا يجوز باي حال من الاحوال الارتهان لمثل هذه الحلول فالثوابت الوطنية الكبرى كالوحدة والهوية وعلاقة الفرد بوطنه هي من الامور التى لا تحتمل المساومة ولا المرونة او الخلاف او التباين ويتعين ان تحصن بنصوص تشريعية صارمة لا تقبل الالتباس او التفسيرات المتعارضة خصوصا ومازال بين ظهرانينا من لم يستوعب حتى الان مفاهيم مثل : الدولة الواحدة -الشعب الواحد -الدولة الوطنية- الانتماء الوطني- المصلحة العليا للوطن.
نعلم تماماً أن الانتقال إلى قاعدة دستورية راسخة وقوية تنتج القيم المعنوية والمادية التى يتقدم بها هذا الشعب نحو المستقبل ليس بالأمر السهل كما أن إحداث تغييرٍ حقيقيٍ وجِدّيٍ في المفاهيم العامة والعقل الحاكم وأساليب الإدارة والعلاقات الوطنية لن يكون طريقه مفروشاً بالورود, لاسيما في وقع تتقاذفه الازمات والمعضلات المزمنة ورُكام هائل من التعقيدات السياسية والاجتماعية ومع ذلك فإن ما نأمله ونحن نسير في اتجاه وضع مداميك البناء التشريعي للدولة الجديدة أن تتوقف كل التجاوزات التى تعيق وتعرقل مسارات عملية التحول والانتقال للدولة الاتحادية من قبل اية جماعات او تيارات تسعى الى الحصول على سقف اعلى من الحقوق مقارنة مع ما يمكن أن يقدمه لها الكيان الاتحادي الجديد حيث وأن من الملاحَظ أن بعض الجماعات والتيارات النافذه باتت تتصرف في الوقت الراهن بمعزل عن أية ضوابط تلزمها باحترام أجندات الدولة الوطنية لتكشف عن ان ما تطمح اليه هو اوسع بكثير من طموحات الوصول الى شراكة حقيقية بين الكيانات المحلية ومركز الدولة الاتحادية وهو ما يوحي بان الشياطين لا تحتاج الى من يشيطنها كما ان من يتسببون في احداث الفوضى والخراب ويعملون على اذكاء النعرات المناطقية في بعض المحافظات لا يمكن ان يكونوا ادوات صالحة للبناء واعادة الاستقرار وبناء الدولة الجديدة.
وطالما ونحن أمام مفصل تاريخي فإن من الشجاعة والموضوعية الاعتراف أن مصيبتنا في هذا البلد لا تكمن في هيمنة المركزية التى نسعى اليوم الى هدم صنميتها وتحميلها مسئولية فشلنا في بناء دولة حديثة قادرة على تحقيق التوازن الفاعل بين المكونات المحلية والجهوية من جهة ومركز الدولة الوطنية من جهة اخرى فليس من الحصافة والرشد السياسي ان يستمر التغاضي عمن يقومون باختطاف بعض المناطق والمحافظات وتكريس نفوذهم عليها فمجرد الصمت على مثل تلك الممارسات هو من سيؤدي الى اضمحلال ما تبقى من مرتكزات الدولة وتضخيم النزعات المحلية وتراجع دور المجتمع المدني لمصلحة المكونات والانتماءات التى تطمح اعادة البلاد الى ما قبل عصر الدولة.
إن الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها أن هناك من بات يخشى من انفراط عقد وحدة الدولة وتآكل النسيج الوطني؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين تساورهم الهواجس وينتابهم القلق هم من يعولون على لجنة صياغة الدستور بأن تكون في مستوى المسؤولية المُلقى على عاتقها وأنها التي ستحرص على أن تأتي وثيقة الدستور مبددة لكل المخاوف, أكان ذلك من حيث شموليتها وعدم تركها لأية ثغرة يتسلل منها البعض لتفكيك مصفوفة الدولة القادمة وتمزيق النسيج الاجتماعي أو من خلال التوازن في نصوصها بما يجعل منها العقد الاجتماعي الذى يعتز به كل اليمنيين ويلتزمون بنصوصه بقناعة راسخة وإدراك عميق بأن قدرنا في هذا الوطن أن نعيش معاً حتى يرث الله الأرض وأن انتقالنا إلى الدولة الاتحادية هو من أجل تعزيز وحدتنا وليس لكي نحرق مرحلة حتى تتهيأ الساحة لجولة أخرى من التدافع والصراع على مغانم السلطة والنفوذ.
علي ناجي الرعوي
الدستور الجديد..القلق المشروع!! 2233