يتعاطى بعض المثقفين من المفكرين والساسة والدعاة -وهم كثر- مع المشكلات الكبيرة التي تعصف بالبلاد بكل برود وانهزامية وأنانية فتارة لا يقدرون جسامة هذه التحديات ولا يستشعرون أمانة العلم ومسؤولية الكلمة إزاءها فتسمعهم يغردون لكن خارج السرب ويفرغون طاقتهم وإمكاناتهم في غير ميدان الحلبة والنزال وفي مكايدات داخلية مع من يفترض أنهم شركاء النضال.
كل ذلك على حساب القضايا المصيرية ذات الأولوية السياسية منها و الاقتصادية و الأمنية و غيرها. وقد تقرر في القواعد الفقهية :أن دفع الضرر العام مقدم على الخاص وتقديم المصالح الضرورية (ومنها مصالح الدين والنفس والمال )على الحاجية والتحسينية وتقديم المصالح العامة و الكلية على الخاصة والجزئية والمصالح المتعدية الأثر على المصالح القاصرة... الخ .
إن البيب إذا بدا من جسمه * * داءان مختلفان داوى الأخطرا
يظهر ترددهم في مثل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفي الموقف الشرعي من الثورات الربيعية وتحديات القضية الجنوبية والحوثية وما يحاك للبلاد والدعوة من مؤامرات داخلية وخارجية .
وربما تفنن بعض المتهربين من مسؤولية الكلمة بذريعة (ائذن لي ولا تفتني ) فادعوا أن جهاد الفساد فتنة والفرار من زحف المواجهة له حكمة ( ألا في الفتنة سقطوا ) وجهلوا أن الفتنة تكون باشتباه الحق بالباطل أما مع وضوحه فالانتصار للحق فريضة.
وكثيراً ما يلتبس العجز والجبن بالورع كما قال ابن تيمية رحمه الله, وانشد هذا المعنى المتنبي بقوله :
يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم !
وتارة يلجأ مثقفون محتالون إلى أسلوب مداهنة الباطل إيثارا للسلامة الشخصية والبقاء في المنطقة الآمنة بعيداً عن المناطق الشائكة فيحرصون في خطابهم ومواقفهم على البقاء في المنطقة الوسط بين الحق والباطل ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.... ) وإمساك العصا من الوسط ( حتى لا يحسب على طرف ) واستعمال العبارات الغامضة والمحتملة ومداهنة جميع أطراف النزاع ويتغيرون بحسب الظروف والضغوط والمصالح وحسب شروط الداعمين على طريقة ( ما يطلبه المستمعون)
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ * * وإن لقيت معدياً فعدناني
أو كما قال العلامة البيحاني رحمه الله: يدور مع الزجاجة حيث دارت * * ويلبس للسياسة ألف لبس
وعند الإنجليز يعد منهم * * وفي باريس محسوب فرنسي
فما أشبههم بمن وصفهم تعالى في قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون )
وفي أيامنا هذه تمثل هؤلاء الشياطين بصورة بشر يغيرون انتماءاتهم وبطاقاتهم الحزبية ومناهجهم الفكرية ومواقفهم السياسية بحسب المنفعة والمصلحة الشخصية ( لا الدينية والوطنية ) فأهواء المتقلب دائماً مع القوي المتغلب
كل يوم تتنقل * * غير هذا بك أجمل !
هذا الصنف المتلوّن المنافق يعاني أزمة قلق واضطراب نفسية كما هي أزمة إيمانية أخلاقية, كما يعاني احتقار نفسه في داخله واحتقار العامة وإن أظهروا له التقدير إلى حين !
ومن عجب أنهم يسمون هذا النفاق الثقافي بالواقعية والعقلانية والحنكة السياسية.. فمتى إذن يتوبون ؟
( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) !
وهكذا يفعل حب المال والشرف (المنصب والوجاهة) وإرضاء الأنظمة المستبدة والجماهير غير الواعية بصاحبه أولاً ثم بمصالح الدعوة والشعوب كما قال صلى الله عليه وسلم :
(ما ذئبان جائعان أرسلا على غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه)
وما أحكم قول ابن النحاس: إن فساد الشعوب بفساد الملوك, وفساد الملوك بفساد العلماء, وفساد العلماء بحب الدنيا.
إنه حين تكبر الدنيا في عين المثقف والداعية فيؤثر العزلة عن هموم أمته بالاكتفاء بالتدريس والوعظ والبقاء في مربع السلامة و(المنطقة الآمنة) ثم يصر على أن يبقى في محل القدوة والقيادة والحال, هذه ويجعل من الدعوة (مشروعاً استثمارياً) يجني من خلاله الفوائد والعوائد المادية والمعنوية لا يمكنه حينها من النصح لله ولرسوله وللمؤمنين والتخندق في صف المصلحين الصادقين لأن كل ذلك يفتقر إلى البذل والتضحية والجندية والربانية وإنكار الذات إيثاراً لما عند المولى عز وجل القائل: (وفي السماء رزقكم وما توعدون ) (وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه ...) وما أقسى عتابه سبحانه لنا بقوله: (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
إن مداهنة الباطل فضلاً عن التبرير له ومواجهة خصومه المصلحين بشتى المعاذير, مجافاة لعقيدة الولاء والبراء, ورسالة الثقافة والدعوة, وكفر بنعمة الإيمان, وحسبنا أن نبي الله موسى عليه السلام لما قتل القبطي انتصاراً للذي من شيعته – تأويلاً- اعتذر بقوله : (ربِ بما أنعمت علَيّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين )
وغداً يتخلى المجرمون عن أتباعهم (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم )، وكما فعلت الأنظمة الغربية بمثيلاتها العربية المستبدة غداة الروع في الثورات الربيعية, وكما يفعل الانقلاب العسكري بمصر بحلفائه في مؤامرة 30يونيو (البرادعي وحركة تمرد و6 أبريل ).
إن جوهر العقيدة الإسلامية يتلخص في الثقة بالله ومنهاجه وحسن الظن به والتوكل عليه وما يستلزمه من نصرة الدين ونصح المسلمين بإيثار محاب الله ومراضيه على أهواء النفوس و شهواتها المريضة.
وإن تصحيح الإيمان والوعي ومعالجة الانحرافات الأخلاقية والفكرية يعيق مؤامرات الأعداء في اختراق الصف وتفريق الكلمة, وأخطره ما كان من بني جلدتنا ممن يظهرون أنهم يحملون مشروعنا ثم هم يعيقونه بنفاقهم الثقافي من حيث لا يشعرون ويحسبون أنهم مهتدون..
وصدق الله (قل أفأنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) ..
رئيس رابطة علماء ودعاة عدن
الشيخ/ عمار بن ناشر
نفاق المثقفين..! 1890