سنوات من التيه والتخبط في متاهات الجهل، تتكبد الأمة من خلالها خسائر فادحة وباهظة الثمن منذ أن ضيعت الخلافة الإسلامية عام 1924م بسقوط السلطان العثماني، وفي مسيرة البحث عن إعادة العزة والكرامة الى مراتعها الأولى تتحسس الأمة أفرادها وتنتقل من جماعة إلى جماعة ومن طائفة إلى طائفة علها تجد مبتغاها فلا تجد إلا جماعة متماسكة ومعها شيء من القوة لكن مراكبها غارقة في أوحال الباطل ولم يعد يجمعهم إلا الضلال وضياع المنهج الحق، أو تجد جماعة ذات منهج سليم وصافي غير أنها صارت عرضة للفرقة وكل يوم يزداد فيها التشظي والانشطار.
وفي الوقت الذي نستمع فيه إلى أنفاس الأمة المتعبة في مسيرتها البحثية يبرز لنا الطغيان في أبهى صوره وفي عنفوان شبابه ليزيد الأمة ضعفاً ووهناً فوق ضعفها ووهنها، فهو لا يكتفي بتأخيرها فقط بل يعمل بكل ما أوتي من وسائل الشر لتغيير مسارها والميل بها عن جادت الصواب.
والطغيان- لاسيما السياسي- نستطع القول عنه بكل بساطة أنه نتيجة لا سبب، فبعد أن غيرت الشعوب مسارها وأغفلت جانب الحسبة السياسية قولاً وعملاً وصار سعيها حثيثاً نحو سد جوعتها وبأي وسيلة كانت، وتثاقلت عن طلب العدل وانتزاع حقها، و تنكبت طرائق العزة والمجد، عندها انفرط عقد السيادة من بين يديها واستعاضت عنها بالوصاية فجاءهم الرجل الضعيف والغريب مثقلاً بالغفلة والجهل يطمع بالجلوس معهم برهة من الزمن فإذا استقر بينهم سرعان ما يعجبون بلكنته ويجذبهم إليه تندره ببعض العادات فلم يكتفوا بمنحه البقاء معهم حتى سودوه على أنفسهم واجزلوا له العطاء ولا يزالون يتزلفون إليه ويقدمون القيم والمبادئ قرابين لحمقه و مكنوه أيضاً من الاستخفاف بهم ورغم عتوه ونفوره فقد هيئوا له مناخ الاستبداد بعد أن سلموه وسام الكبر والغرور وبتكاتف الجميع تم الانتهاء من صناعة عرش للطغيان، وبعد الانحطاط والنزول في مدارك السمع والطاعة لكل ما يقول، وجد الغريب نفسه مضطراً للجلوس على العرش والولوج إلى بوابة الطغيان وما بدا بمزاولة العمل حتى ألتف الجنود حوله وقاموا عين يمينه وشماله وهم مدججون بالأسلحة يحمون حوزته ويرفعون ردائه من خلفه خوفاً عليه من البلل مما جعله مضطراً مرة أخرى أن يصدر الأحكام الجائرة عليهم ويكلف بالمهمات القاسية، وإذا ما أراد أن يبتلي ولائهم والطاعة أمر بعضهم بالتعدي على بعض فإذا قاموا بذلك وتبين له أنهم قد قطعوا أواصر الصلة والمحبة لدى الأقربين منهم فتح شهيته للتوسع والتمدد والسيطرة أكثر.
ولابد للطاغية أن يكون خطيباً مفوهاً وحصيفاً في اختيار الكلمات المؤثرة التي لا يكاد ينطق بها إلا وقد ألتهبت أيدي الجماهير له بالتصفيق الحار ورفعوا أمامه شارات الإعجاب، أما في زيارته وفي المناسبات لابد أن يهيئ من يعتني بالحشد وجمع الناس حتى يظهر في عنفوان خيلائه، وما أن يصل الناس إلى مرحلة وضع القيود في أيديهم والأغلال في أعناقهم إلا وقد استكمل الغريب جميع الصفات اللازم توفرها للطغيان.
ومع أن نفس الحرية المتجذر بالفطرة في قلوب الناس قد صار ضيقاً جداً إلا أن هناك من لا يزال يتنفس منه ويحاول التوسعة له ليوجد مجالاً له ولغيره وقبل أن يتسع هذا النفس الضيق يكون الطاغية قد بنا له سياجاً أخر لحمايته ليس من العبيد الذي في حضيرته بل من بلدان الطغيان العالمي ومن دول الكفر العظمى مقابل أن يغدق عليهم من ثروات وخيرات البلد الذي يحكمه ثم يستوردها منهم على شكل فتات يسلي بها عبيده.
وكلما حاول أحدٌ أن يتخلى عن الرق الذي أقحم فيه ويعود للحالة الطبيعية الأولى أستخدم في حقه كل أساليب القمع والقوة والعنف، ويضل الطغيان هوهو في الدَّوافع والوسائل والتفكير والتطبيق، وإن اختلف الزمان والمكان والذوات، ويتحد ويتشابه مضموناً وروحاً، مصداق ذلك قوله تعالى: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) .
يقول الأفغاني رحمه الله: "فكلما قضى فرعون تقمص بآخر، وكلما انقرضت عائلة فرعونية ادعت إرثها عائلة، وجاءت ولو من وراء البحار، والتصقت بالنسب الفرعوني ولو بأقل مشابهة من خلق الغطرسة والتأله على النَّاس".
وبما أن الطغيان مجاوزة الحد في الاستكبار والعتو والتجبر والظُّلم والفساد في الأرض وفي استخدام القوة وعدم مراعاة أسس العدل والحق ولا سيما من قبل السادة والحكام، إلا أنه لا يستقر ولا يدوم إلا إذا توفرت له الحاضنة الشعبية المتمثلة في قطاع العبيد وأصحاب الرق، ولو أخذنا قصة فرعون نموذج لوجدنا بأن القرآن قد كشف اللثام عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة في الدولة الطَّاغية وهذه الأطراف وحسب تعبير الشيخ القرضاوي هي:
"الحاكم المتجبر في بلاد الله ويمثله فرعون، والسِّياسيّ الوصولي الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطَّاغية وتثبيت حكمه وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان، والرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطَّاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه ويمثله قارون".
أخيراً ينبغي أن نعرف أنه لا طغيان من دون عبيد ومتى ما تحرر العبيد أنهدم عرش الطغيان.
بسام الشجاع
صناعة الطغيان السياسي 1381