كان الأربعاء وكما هو راسخ في الوعي الشعبي لدى بعض أهلنا في أبين يوما مشؤوماً، يوماً كانت فيه الجبال التي تتكئ عليها المدينة السياحية الساحرة، مسرحاً لعمليات كرّ وفر مع مجاميع قيل إنها إرهابية، وقيل أكثر إنها تنتمي لتنظيم القاعدة هاجمت القاعدة المركزية الرئيسة للجيش والواقعة في حضن أحد جبال المدينة.
بالنسبة لمن عرف عدن وأحبّها، فإن آخر ما يمكن أن يتخيله المرء أو يصدّقه العقل السوي هو أن تأتي أخبار القاعدة من عدن، وتحديداً من التواهي، مدينة شاطىء جولد مور، وساحل العشاق، والرصيف السياحي، والمسرح العريق وساعة بيج بن التي تؤكد انتماء المدينة إلى سجل العالم المُتحضّر والراقي منذ سنوات طويلة تاريخاً وثقافةً, ليس هناك من شبه بين جبال التواهي بعدن وجبال تورا بورا بأفغانستان، لكنها في أخبار الأربعاء المشؤوم كانت على قدر كبير من الشّبه، وكانت أكثر شبهاً بالنسبة لسكان المدينة الذين أرعبهم الموت القادم من مرتفعات الهضاب التي كانت مصدر أمانهم وملجئهم الذي يحتمون به من أي غضب قادم ومحتمل من شطآن البحر الذي يغسل أقدام المدينة ويطهّر أدرانها صباحاً ومساء.
منذ أن عرفت عدن كمدينة مزدهرة منذ ما بعد ثلاثينيات القرن الماضي، كانت التواهي هي عنوان هذا الازدهار، يوم أن كانت هي قِبلة السياحة والثقافة والتنوير، وعاصمة التجارة والاقتصاد التي يأتيها التجار العرب والعجم بسفنهم الضخمة والخشبية على السواء، للتبضُّع والتجارة والتسوق في أسواق المدينة التي لم يكن لها شبيه في أرض العرب من البدو والحضر، والتي تميزت بازدهار اقتصادها وباحتضانها شوارعَ قائمةً بذاتها لتجارة الذهب والمجوهرات، مازالت آثارها ومعالمها رغم سنوات القحط والجدب تدل عليها، حتى أنها أسميت حينها بباريس الشرق، والمدينة التي لا تنام.
وفي عهد دولة الجنوب السابقة، كانت التواهي هي عاصمة العاصمة، فيها رئاسة الدولة ومقر حكومتها وفيها محطّتا الإذاعة والتلفزيون والمسرح المركزي، لذلك تميزت المدينة بتنوُّرها ومدنيتها وبثقافتها المنفتحة على العالم وبتسامحها الديني الذي لا نظير له حيث يفصل المسجد عن الكنسية بضعة أمتار وعلى مقربة منهما أقيمت المتنزهات والملاهي الليلية، وفي إطار ذلك كله تعايش الناس بهدوء ومحبة قل وجودهما في مكان آخر على الأرض.
الأربعاء حاول تجار الحروب ومتعهدو الإرهاب أن يقتلعوا المدينة من تاريخها وأن ينتقلوا بأهلها إلى زمن آخر لم يألفوا العيش في زمن يشبهه، فجاءوها بقتَلَة مستوردين، نشروا الموت وأثاروا الرعب، وأحالوا الجبال التي يتهافت الناس على العيش فيها لإطلالها على البحر والميناء، إلى جبال رعب وخوف لا تختلف في شيء عن جبال تورا بورا.
بالنسبة لتجار الحروب والإرهاب، تتكرر دوماً إشكالية الوعي بتاريخ عدن وأهلها، إذ يظنون أن بمقدورهم - بمثل دسائسهم وأفعالهم الإجرامية هذه - سلخ المدينة من مدنيتها وحضارتها وثقافتها وسلميتها، دون أن يعلموا أن تجارب عدن المتتالية معهم، حصّنتها بمناعة التصدي لهم والنفور من ثقافتهم الجاهلية، وزادتها تشبُّثاً بإرثها وثقافتها وحضارتها، ولذلك فهي سرعان ما تبادر للوضوء من رجسهم وغسل أفكارهم الظلامية ودمائهم الملوثة بأمراض العصر من فوق إسفلت شوارعها وعلى سفوح هضابها بمياه شواطئها النقية الرقراقة.
منصور صالح
تورا بورا التواهي! 1176