ثمة فرق بين من يحمل الحق ويملك القيم والمبادئ ويسير بخيله ورجله للوصول إليه وإيصاله للناس؛ لأنه يعلم أن حاجتهم له لا تقل أهميته عن حاجتهم للهواء، وبين من يحمل الباطل ويملك القوة والسيطرة، فهو يسعى للمزيد من كسب المنعة والولاء ويحاول عابثاً أن يحجب الناس عن الحرية والإباء، وبين من يحمل (الفكرة ) ومن يحمل (القنبلة ).
فالأول يمنح الأمة الأمن والأمان ويزرع في الإنسانية بذرة الحب والسلام والثاني ينشر في الأمة الرعب والعناء ويحصد كل يوم أرواح الأنام.
الحق ثابت وفيه إشارة تدل على البقاء لأنه من ذاته يستمد عناصر وجوده. و قد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان...و لكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى و يكفل له البقاء.
أما الباطل فهو لا محالة زاهق لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية و اسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذا الإسناد تهاوى و انهار(1).
عندما يتفنن الإنسان إلى أساليب العنف كالتعذيب والقتل والإبادة ليس معنى ذلك أنه قوى وأنه مسيطر ومتغلب بقدر ما يكون علامة على استنفاد كافة الوسائل بل هي إعلان للإفلاس الحقيقي.
قد يفقد الإنسان إنسانيته وتتجمد أحاسيسه ومشاعره عندما يلج بوابة الدماء المحرمة لكنه سيظل محروماً من نشوة الفوز ولذة الانتصار لأنه انحدر في سلوك أبن أدم الأول الذي ما رفع يده من سفك دم أخيه حتى أصبح من الخاسرين ولأنه لا يعرف ما يترتب على القتل من ضياع وتشرد وبلايا ودمار ويتم.
إن العدوان الصارخ الذي لا مبرر له سواء حدث في فلسطين أو سوريا أو العراق أو اليمن أو مصر أو غيرهما في بلدان المسلمين قديماً أو حديثاً ما هو نتيجة لطبيعة الشر الكامنة في نفوس جاحدة شريرة مجرمة لئيمة وسيظل القتل هو الجريمة الأبشع والأقذر في تاريخ البشرية والجريمة التي تفوق زوال الدنيا وما عليها في ميزان العدالة السماوية وهو الجريمة التي تنتكس فيها جبلات القتلة
من يقرأ ويحلل نفسية القاتل البئيسة التي ألفت مناظر الدماء البريئة الأشلاء المظلومة يجد أن التاريخ يعيد نفسه فمع علم قوى الشر من أن سفك الدم لا يعد نجاحاً للفكرة التي تعيش من أجلها ولا يوفر لها استقراراً وإن توفر فان أمده قصير فكما أن قوى الشر باقية إلى قيام الساعة ولا يمكن لأحد أن يلغيها من الوجود فكذلك قوى الخير ستبقى إلى قيام الساعة وهذه سنة كونية أرادها الله عز وجل وستبقى ما بقي الليل والنهار ولا يستطيع أحد أن يتجاوزها ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
وفي هذا دعوة صريحة للمراجعة إذ لم يعد مجدياً استخدام القوة في أي جماعة أو طائفة لمحاولة مسحها من الخارطة مهما كانت ضعيفة لأن الفكرة أقوى من كل سلاح وليتنا ندرك هذا الأمر قبل تستنفد الجهود وتهدر الدماء وتستباح الحرمات لأننا في نهاية المطاف لن نجد خيار آخر أجمل من الحوار لذا ينبغي أن لا نكابر ونستكف من الدعوة للحوار قبل أن نسبح في أنهار الدماء .
وهنا نماذج سابقة وحديثة كلها تسعى لاجتثاث الآخر المخالف ينبغي الاستفادة منها اليوم كونها تستخدم القتل والتعذيب وسيلة لها مهما تغيرت الأساليب.
فليس ثمة فرق بين المسلمين اللذين سفكت دمائهم وأزهقت أرواحهم في ميدان رابعة بالقاهرة وميدان النهضة بالجيزة في 14 أغسطس، 2013م والبالغ عددهم حسب تقرير وزارة الصحة بـ 578 قتيل ونحو 4200 مصاب من الجانبين، وبين اللذين تحكم عليهم محاكم السيسي بالإعدام والبالغ عددهم 529 من جماعة الإخوان المسلمين بما في ذلك المرشد للجماعة فقط هو تنوع للأساليب.
وما يقدمه النظام المصري اليوم من مجازر هو مشهد لطاغية مصر الأول فقد كان أحيانا يباشر القتل مباشرة كما جاء في القران الكريم (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين.
وأحياناً أخرى يحاول أن يسبغ على جريمته السبغة الشرعية فيصدر الحكم بالإعدام
كما قال الله عز وجل عن قوم فرعون(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
حتى نعرف أن سنن الله في أصحاب الطغيان ثابتة لا تتغير فلابد من التنبيه أن إصدار الحكم بالقتل كان بعد صار فرعون وهامان وقارون، ومعهم باطلهم الزائف وقوتهم الظاهرة ومركزهم الذي يخافون عليه من مواجهة الحق ذي السلطان . . عندئذ لجأوا إلى الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق : { فقالوا : ساحر كذاب } يفهم من السياق أنه دار نقاش وجدال وكل يظهر حجته وبرهانه وبعد أن طويت المباراة مع السحرة، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون. ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث { فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا واستحيوا نساءهم }. وتأملوا معي الحجة التي أراد القاتل أن يقنع الناس بها لتكون مبرراً لتنفيذ حكم القتل - { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}.
وهنا وعند هذه الحجة الواهية والمتكررة يجدر بنا أن نستمع إلى السيد الشهيد سيد قطب رحمه الله وهو يقول "أليست هي بعينها كلمة كل طاغية وقاتل مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟
إنه منطق واحد.
. يتكرر كلما ألتقى الحق والباطل، والإيمان والكفر , والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان , والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين "
إلا أن التجاوز في استخدام القوة المفرطة لا تكفي لجعل القاتل يشعر بلذة النصر فهو محروم منها وإن أدعى عكس ذلك ولا تكفي أيضاً لاجتثاث واستئصال أي فكرة حتى وإن كانت الفكرة ضحلة ورديئة ويستحيل ذلك إذا كانت الفكرة مستمدة من وحي السماء والشواهد على ذلك كثيرة خصوصاً في أرض الكنانة فليس بدعاً عليها مناظر الدماء والإشلاء فهي لا تزال ترزأ بظالم وراء ظالم حتى يومنا هذا وكلهم يحاول بما يملك من قوة في السلطة والسلاح أن يطمس معالم الحق والخير وتثبت الليالي والأيام عكس ذلك تماماً والعجيب أن القتلة نسخ مكررة من بعض يعيدون نفس المشاهد.
فما يجري اليوم في مصر بنظري فقط مجرد محاكاه لما قام به جمال عبد الناصر "ففي 26 أكتوبر 1954 تم محاكمة وإعدام 58 أعدم بسببها ستة من قادة الإخوان على رأسهم الشهيدان عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي بتهمة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في حادثة المنشية حكم بالسجن على 800 مواطن من خيرة رجال مصر وفي أول يونيو سنة 1957حدثت مجزرة ( ليمان طرة ) لمائة وثمانين من الإخوان المسلمين أطلقت عليهم الرصاص داخل الزنازين وهم عزل لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم وهم الذين بقوا في سجن ليمان طره بعد ترحيل إخوانهم إلى سجن المحاريق وسجن بني سويف.. وسجن أسيوط وغيرها من السجون خارج القاهرة".
أما في سوريا فقد تعرضت ذات الحركة لنفس المصير وبنفس التهمة وهي محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد، "ففي عام 1980 صدر قانون بإعدام كل من ينتمي لحركة الإخوان المسلمين حيث تم اعدام 625 أسير في سجن تدمر على يد أخ الرئيس رفعت الأسد.
ويلي هذه المأساة مجزرة حماة: وتعتبر أوسع حملة عسكرية شنها النظام السوري ضد الإخوان المسلمين في حينه، وأودت بحياة عشرات الآلاف من أهالي مدينة حماة. بدأت المجزرة في 2 شباط عام 1982 م واستمرت 27 يوماً "
منذ ذلك الوقت والحركة محظورة في كلتا البلدين حتى جاءت ثورات الربيع العربي في 2011م لتثبت للعالم كله أنه مع كل الويلات التي جرها الناقمون على حركة الإخوان ورغم الظلم والاضطهاد الذي مورس في حقها إلا أنها تعتبر أكبر حركة معارضة سياسية في كثير من الدول العربية، خاصة في مصر وتتابع انتشارها في العالم حتى وصلت "الآن إلى أكثر من 72 دولة تضم كل الدول العربية ودولاً إسلامية وغير إسلامية في القارات الست"
وبغض النظر عن وجود أخطاء داخل الجماعة قد نختلف معها إلا أن كل التعسفات الذي حدثت بحقها من السجن والقتل والتعذيب واستخدام القوة المفرطة لم يزدها إلا قوة ومتانة فهي لا تزال تحمل كل معاني البناء والسيطرة رغم التكالب العالمي عليها وهذا ما أثبتته تجربة الربيع العربي الذي حرك المياه الراكدة تجاه الحركة .
هذا نموذج بسيط وقريب نستطيع من خلاله القول بأن القتلة يستخدمون مثل هذه الأساليب الوحشية عندما تنفد عندهم كل وسائل محاربة الحق فيزعمون أنهم بالقوة سيتغلبوا على الحق وهذا ما لم يفهموه من أسيادهم الذين صاروا اليوم يعترفون على لسان مفكريهم وكتابهم أن القوة لم تكن وسيلة ناجعة لمحاربة المصلحين.
وهذا هو أندرو باسيفيتش Anderew Bacevich أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة بوسطون، يؤلف كتاباً بعوان(هل انتهى عصر القوة العسكرية؟ أمريكا وإسرائيل نموذجاً).
وقد أقام الكتاب على أساس من الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق وما أظهرته من حدود وقيود على القوة العسكرية الأمريكية واستخداماتها.
ومؤخراً أراد أن يطور هذا المفهوم وأن يطبقه ليس فقط على الخبرة الأمريكية ولكن أيضاً على الخبرة الإسرائيلية وعملياتها العسكرية في المنطقة وخاصة منذ الثمانينات.
وهذا كله إذا نظرنا بالمنظور المادي المحسوس أما لو أدرك القاتل والظالم الأمور الغيبية وعلم ييقناً أن هذه الدنيا ليست نهاية المطاف لربما تبرأ من جبروته وكبرياءه وأعتذر لكل من ظلمهم وتطاول عليهم فالنصر لا يقتصر على التغلب في الدنيا أو البقاء فيها فحسب وفي هذا يقول الله عز وجل (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ
الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) ولنتأمل في معاني هذه الكلمات الطيبات المباركات قتل أصحاب الأخدود جميعاً ولكن يقول الحق سبحانه بعدها (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) ما سمى الله بالقرآن فوزاً كبيرا الا لهؤلاء الذين قتلوا جميعاً فليت الطواغيت يدركوا أن الفوز واللذة هي حليفة لخصومهم وليس لهم ولعلي أختم الحديث بكلام السيد الشهيد سيد قطب حول هذه الآيات الكريمات " ففي هذه الآيات الكريمة تتجلى حقيقة الصراع الأبدي الذي كان وما زال قائماً حتى اليوم بين الكفر والإيمان وبين الجاهلية والإسلام ، فلم يكن أبداً صراعاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً كما يحاول الكثير أن يصوروه، بل كان في حقيقتهِ صراعاً عقائدياً مريراً بين أصحاب عقيدةٍ صحيحة وأخرى باطلة .
ولقد قصَّت لنا هذه الآيات العظيمة آياتٍ بينات لتلك الفئة المؤمنة التي آمنت بربها
واستعلت بإيمانها واستمسكت بعروة دينها، حين فُتنت من فراعنة كل عصر وخُيّرت بين الحياة بلا إيمان أو الإيمان الذي سيكون مصير أهله الحرق حتى الموت، فاختارت فكان نِعمَ الاختيار؛ اختياراً انتصرَ فيه الحق بأهله على الباطل بجبروته وبطشه .
لقد وصف سيد - رحمه الله - قصة أصحاب الأخدود بما فيها من أحداثٍ وعِبر بكلمات حقَّ لها أن تُسطر بمدادٍ من ذهب حين قال : " في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان ، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوسِ الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن وحساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !! أفهكذا ينتهي الأمر وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان، تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ، بينما تذهب الفئة الباغية التي ارتكست إلى هذه الحمأة ناجية؟ " هذا في حسابِ أهل الأرض، أما في حسابِ رب الأرض والسماء جلَّ في عُلاه فيقول: " إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة وأن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان وأن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة وانتصار العقيدة على الألم وانتصار الإيمان على الفتنة ... وهذا هو الانتصار " .
بسام الشجاع
الفكرة تنتصرعلى مشاريع القتل 1380