لأكثر من عشرين مرة تنتهي محاوراتي مع الغربيين البارزين في السياسة أو التاريخ أو الفكر الاجتماعي بتعبيرهم الأسيف (وليس الآسف فحسب) عن أنهم وقعوا ضحية مخاوف مبالغ فيها على مدى سنواتهم السابقة، وعلى مدى مطالعاتهم السابقة للبحوث والدراسات والكتابات التي تناولت علاقة الإسلام بالحكم والمجتمع المدني.
ومن الإنصاف أن أعترف بأن مناقشاتي هي التي كانت تنتهي إلى هذه النهاية، وربما أن مناقشات آخرين من النخبة المصرية المعاصرة تظل كفيلة بأن تنتهي إلى نهاية مخالفة يبدي فيها الغربيون تعبيرهم الأسيف (وليس الآسف فحسب) عن أنهم لم يدركوا خطورة الظاهرة الإسلامية ومدى تأثيرها السلبي على مستقبلهم القريب والبعيد!
أعترف بأنني لم أنظر إلى المفارقة في هذا الأمر أبدا في نطاق الفسطاطَين المنفصلين أو المعاديين:
الفسطاط الذي يحب للإسلام السياسي أن يُفهم أو أن يُتقبل أو أن ينتعش، والفسطاط الذي يحب أن يحذّر منه وأن يحظر بل وأن ينقرض.
لقد كانت نظرتي لتقييم موقفي واختلافه عن موقف الآخرين خاضعة تماما لظاهرة تتعلق بقدرات أساتذة الطب على التشخيص الدقيق، فكما أن بعضهم يتسم بالتشخيص الزائد المفرط حتى أنه يُدخل في التشخيص ما ليس منه، فإن البعض الآخر يتسم بالتشخيص الناقص أو المفرّط، أي الذي يهمل تشخيص بعض الحالات مع أنها مرضية أو مريضة بالفعل.
ونظراً لأن علوم الطب قد أصابها من التقدم والانضباط والضبط ما يفوق ما أصابته علوم السياسة، فإننا أصبحنا في مجال الطب والتشخيص قادرين على أن نقلل من آثار الرؤى الشخصية والانطباعية والمتحزبة من خلال تقنيات علمية عديدة ليس من أقلها شأنا أن نلجأ في حالات القرارات الجراحية إلى أخذ رأي ثلاثة أطباء من ثلاثة مراكز مختلفة قبل أن ننصح المريض بأن يجري الجراحة أو أن يؤجلها أو أن يستبعد الجراحة كطريقة من طرق علاج حالته.
لكننا في مجالات السياسة والإدارة العامة والعلاقات الدولية لا نزال بعيدين عن الوصول إلى معايير موضوعية.
وربما يمثل موضوع مقالنا اليوم نموذجاً معبراً عن مثل هذا العجز الواضح عن الوصول إلى توافق، فضلاً عن الوصول إلى اتفاق.
فعلى سبيل المثال، لا يزال الحديث عن موقف الإخوان المسلمين في مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بمثابة ميدان واسع للعبث والادعاء والافتراء أيضاً، ومن ثم فإنه يتحول تلقائياً إلى مجال لبعث التخوف وتقليل الثقة وفرض العداء المسبق قبل أي تفاهم أو تفاوض.
وفي هذا الموضوع تحديداً، فإن من الواضح لكل إنسان عاقل متابع أن الإخوان المسلمين لم يضعوا قضية فلسطين ضمن أي خطة انتخابية قصيرة أو بعيدة المدى، ولم يحوزوا أصواتهم من أجلها، وأقصى ما يمكن وصفهم به في هذه الجزئية أن مشاعرهم تجاه إسرائيل ليست طيبة بحكم ما تراكم عبر الصراع العربي الإسرائيلي في العقود الماضية.
لكن كل هذا يأتي في محل تالٍ بمراحل لالتزام الإخوان المسلمين المعلن بالاتفاقات المبرمة وما ترتب ويترتب عليها، كما يأتي تاليا تماما لالتزامهم المعلن بأن أي تعديل في أي اتفاق أو اتفاقية لابد أن يأخذ مجراه من خلال القانون الدولي والوسائل المشروعة.
بل إن سياسة الأمر الواقع والممارسة الفعلية أثبتت بكل وضوح في عهد الرئيس محمد مرسي أنه - في أقل تقدير- كان أسرع إلى العمل على إقرار السلام من سلفه الرئيس مبارك، وأنه لم يلجأ إلى أي استفزاز أو تصريح مستفز أو حتى تلميح مستفز.
بل إن القوى التي كانت تهاجم مرسي بالباطل في كل لفتة وصفته على خلاف الحقيقة والأمور المستقرة في الأذهان بأنه "صديق لإسرائيل"، وتمادى بعضها في توظيف ما نشر من صورة لرسالة روتينية مكتوبة سلفاً وبطريقة بيروقراطية لتصور مرسي صديقاً شخصياً مقرباً إلى بيريز، وهو ما لا يختلف اثنان على أنه أمر يخالف الحقيقة والمنطق.
فإذا انتقلنا إلى الجانب الآخر من رؤى المخوفين من الإسلام السياسي وجدنا إشارات متعارضة هنا وهناك تكفي لتعادل بعضها، أو لأن يلغي بعضها بعضا، لكن أسلوب التجني كان كفيلاً بأن يجعل من كل سبب من الأسباب المتعارضة سبيلاً إلى تخويف الجانب الآخر من حكم الإخوان الذي سيحرق اليهود أو الإسرائيليين، وتصل المبالغات في هذا الحد إلى التلميح غير الدقيق بأن الإخوان تحالفوا مع هتلر أو أنهم كانوا أصدقاء لمفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني الذي تحالف مع هتلر.
كذلك تصور هذه الكتابات بسالة الإخوان في معارك ١٩٤٨ على نحو أنهم كانوا يريدون إبادة اليهود في حين كانت الجيوش العربية تقف عند الحدود الإنسانية، وهي الحفاظ على أرض فلسطين من هؤلاء المعتدين!
وهكذا يجد الباحث في قضية الإسلام السياسي نفسه وقد أدخل عمداً إلى حقل من الأشواك والألغام، مجبرا على نقاش الأفكار من خلال المبالغات أو الظنون أو الأكاذيب أو الاستنتاجات غير الدقيقة.
ومن ثم، لا يمكن لهذا الباحث أن يخرج من قراراته ولا استماعاته في الندوات وهو مطمئن إلى أن الأمر طبيعي، وإنما يخرج وقد حصر تشخيصه بين الداء المستوطن والوباء، بينما الأمر يخلو من هذا وذاك ولا يتعدى ارتفاعا معلوم السبب في درجة الحرارة.
لكن أصحاب الرؤية المعادية للإسلام لا يجدون حرجاً في أن يقولوا إن هذه هي بالضبط مقدمات وباء إنفلونزا الطيور.. وإنها إذا لم تحدث هذا العام فستحدث في العام التالي.
وعند الأطباء يعتبر مثل هذا الأسلوب في التشخيص كفيلاً بأن يسقط صاحبه من نظر زملائه ومرضاه وأساتذته، بل ويستدعي عقابه ولومه وتغريمه، لكن مثل هذا التفكير في مجال العلوم السياسية يحظى باحترام صناعي ومصطنع، ويصور على أنه وجهة نظر، بل إننا تعودنا على أن تُدعى وجهات النظر الشاذة بالذات للحديث في حلقات البحث، وذلك على حساب الموضوعية والمستقبلية.
وليس من المستغرب بعد هذا أن نجد أن مراكز البحوث الغربية تعاني من انفصام في الشخصية في كثير من الميادين المتعلقة برؤيتها لهذا الموضوع، كما تعاني الانفصال عن الواقع في كثير من الأحيان، وتكون النتيجة أن تحدث كوارث سياسية دون أن يحاسب أحد على الأسلوب الذي لجأت إليه في تقاريرها وفي بحوثها تحت دعاوى من قبيل إبراز وجهات النظر.
وهنا فإني أجاهر بالقول إن إبراز وجهات النظر لا يغني أبداً عن ضرورة الانحياز لوجهة نظر ما على أنها الوجهة المفضلة بناء على البحث والدراسة، فليس من مهام مراكز البحوث في رأيي أن تدفع الناس إلى الحيرة في كل شأن، وإنما من مهامها أن تقدم لهم ما تعتقد أنه الحقيقة دون نفي وجهات النظر الأخرى، أي تقدم وجهات نظر متعددة على أنها تصوير للحقيقة من جوانبها المختلفة ولا تقتصر في وصف جوانب الحقيقة على فكرة الوجهات، ذلك أن الحقيقة لا يمكن أن تكون أبدا من المساكن سابقة التجهيز دون أن يكون هناك هيكل معماري واضح في الأساس والحدود والمعالم.
ولست أبالغ إذا قلت إن كل الأحكام التي أصدرتها المؤسسات البحثية ضد الرئيس مرسي وضد الإخوان المسلمين كانت نابعة من هذا الإطار المستند إلى شذرات ونثرات واستثناءات ومبالغات غير مترابطة تم وضعها جميعا في خيط سبحة غير متجانسة وتقديمها للتحذير من الإخوان المسلمين وأثرهم على المجتمعات العربية المستقرة هنا وهناك!
وليس هذا المقال لنسف الدعاوى التي صورت الأمور بطريقة خاطئة، بيد أننا نفرط في فرصة ذهبية إذا أهملنا الإشارة إلى مجموعة من الحقائق بصورة سريعة.
الحديث عن تبني الإخوان المسلمين الإرهاب ثبت بكل دليل أنه منافٍ للواقع، ولم يجد أحد دليلا عليه إلا من تطبيق قواعد من صوريات المنطق الصوري بطريقة مضحكة من قبيل ما تبناه رئيس عربي سابق من القول إن كل مسلم مشروع متدين، وكل متدين مشروع إخواني، وكل إخواني مشروع إرهابي!
والحديث عن ميل الإخوان إلى الإقصاء لم يثبت عليه أي دليل، فضلاً عن أن الديمقراطية نفسها لا تقبل به، كما أن تجارب الإخوان في الحكم أثبتت أن إقصاءهم من الحكم أسهل من إقصائهم من الحياة السياسية نفسها.
والحديث عن ميل الإخوان للاستعانة بكوادرهم فيما يسمى بـ "الأَخْونَة" ثبت أنه دعاوٍ من الطرف الآخر وليس له وجود في الواقع.
والحديث عن توظيف الإخوان مواقعهم المكتسبة في الانتخابات لخدمة دعوتهم ثبت عكسه، وهو أنه لولا عناية جماعتهم بالعمل الاجتماعي لما تمكنت الدول -في مصر على سبيل المثال- من النجاح في كثير من وظائفها الجوهرية، فالإخوان ظلوا يحملون عن دولة مبارك 70% من مسؤولية التعليم، و90% من مسؤولية الصحة، فلما تولوا الحكم وجدوا أنهم -هم أو غيرهم- من دون مؤسساتهم نفسها لن ينجحوا.
والحديث عن تنظيم دولي هو في حد ذاته حديث مشرف لأي دعوة تتخطى حدود القومية إلى آفاق الانسانية، بيد أن تأمل الواقع أثبت أنه تنظيم روحي بنسبة 100% وأن البراغماتية فيه يمكن قياسها بالسالب لا بالموجب.
والحديث عن سوء اختيار الإخوان كوادرهم التي يقدمونها أثبت على العكس من ذلك أن الإعلام المحلي والدولي هو العاجز عن أن يدرك مناطق القوة في النظم والشخصيات الإخوانية.
والحديث عن دور مكتب الإرشاد في توجيه الدولة -رغم أنه حديث مغلوط ومنافٍ لمبادئ السياسة- ثبت بما لا يقبل الشك أنه حديث افتراضي الطابع لا يستند إلى وجود في الواقع.
والحديث عن أخطاء إخوانية في الإدارة ذهب أدراج الرياح بمجرد خروج الإخوان من الحكم، وكأنه كان يهدف إلى بث كراهية الكراسي فيهم.
وأخيرا، فإن الحديث عن الخلايا النائمة للإخوان أتى بنتيجة عكسية جعلت كل إنسان ملتزم دينيا أو خلقيا يقول إنه ليس من الإخوان.
وعلى الرغم من كل هذا فإني أجد من الصعوبة بمكان أن يعدّل باحث في تلك المؤسسة الأميركية أو الغربية آراء تبناها من قبل بحيث يميل في المستقبل إلى الإنصاف، ذلك أن البحوث السياسية المتعلقة بالإخوان أصبحت شبيهة إلى حد التطابق بالبحوث التي تجري على دواء معين، حيث تمولها شركات الأدوية المنتجة للدواء ومن ثم فإنه يستحيل أن يأتي باحث ليجاهر بانتفاء الفوائد المزعومة للدواء في علاج الداء!
ومع هذا فإني ما زلت آمل في أن ينتبه الضمير الغربي إلى هذه النقطة الفاصلة فيجاهر بأن الأسلوب الذي يحارب به الإخوان لا لزوم له ولا فائدة.
الجزيرة
محمد الجوادي
هل بالغ الغرب في الخوف من الإسلام السياسي؟ 1227