لشهور خلت لم يعد الرئيس/ عبدربه منصور هادي يتعاطى مع الأحداث التي تصاعدت في الجنوب بالاستناد إلى نظرية "ارتخاء القبضة" التي بدت نهجاً لافتاً في التعاطي مع فعاليات الحراك الجنوبي خلال المرحلة التالية لاستهلال أعمال مؤتمر الحوار الوطني.
حيث بدا أن ثمة ميولاً رئاسياً يغذيه إصرار لافت من جانب وزير الدفاع اللواء محمد ناصر أحمد على اعتماد تكتيكات جديدة في التعاطي مع مجمل الأنشطة الحراكية في الساحة الجنوبية.
حين كان ساسة الفعل الحواري يناضلون لمبارحة تموضعات المضمون والمحتوى في القضية الجنوبية حدثت تحولات طارئة في مسارات التعاطي الرسمي مع الحراك بصورة أدت إلى تكثيف بائن لنظرية "القبضة الحديدية" التي أفضت بالتدريج إلى ظهور اشتباكات مسلحة غير متوقعة وسيلاناً دموياً مأسوفاً عليه.
للوهلة الأولى بدا أن ثمة من يدفع باتجاه إحباط مساعي ساسة موفمبيك الذين كانوا آنذاك يحاولون إخراج إحتقانات "تمسك كل طرف برؤاه" إلى فضاء توافقي يرضي رقعة الغضب المتسعة التي تجتاح المحافظات الجنوبية.
بالتقادم آخذت الصورة تتخذ مساراً مغايراً باتجاه إبان جوانب الإعتام حول حقيقة المستفيد من جرجرة الحراكيين إلى جولات من العنف.. إذ سرعان ما شرعت الرغبة الرئاسية باستحداث واقع جديد في تموضعات الساحة الجنوبية تعبر نفسها تدريجياً.
لم يكن بوسع أكثر المتابعين حصافة لتفاعلات المشهد الجنوبي إدراج انسياق الجيش في مواجهات مفتوحة مع حراك غاضب تحت مصطلح "الفعل ورد الفعل" وبالتالي القول أن الأمور خرجت عن السيطرة ولم تحدث بفعل حثّ مسبق لغايات يكتنفها الغموض.
بين غض الطرف وإذكاء الصراع
عقب نجاح الرئيس هادي في تمرير مشروع هيكلة الجيش وتمكنه من صهر التكوينين العسكريين اللذان أفرزتهما ثورة الشباب السلمية في تكوين هيكلي جديد بمسميات غير مألوفة، كان واضحاً أن الرجل الذي يحظى بإسناد دولي غير مسبوق قد امتلك زمام المبادأة والحسم بصورة تمكنه من تمرير إزاحات واسعة في معظم المواقع وبالأخص تلك التي تتخلق حول شاغليها تعليلات ومطالبات ومسببات كافية لإسناد أي شروع في تمرير موجات إزاحية.
في شأن المطالبات الناتجة بفعل أحداث الضالع مثلاً، بدت الردود الآتية من المطبخ الرئاسي شديدة الاتصاف بطابع استخفافي لا يلقي بالاً لمعطيات ماثلة على صعيدي الداخل والخارج ما انفكت تؤكد قدرة فخامة رئيس الجمهورية على اتخاذ قرارات وسياسات تتلاءم مع المطالب والتطلعات المتراكمة.
حين نُسب إلى المطبخ الرئاسي الزعم بعدم قدرة الرجل على إزاحة قائد اللواء 33 مدرع الذي انساق إلى دوامة من التصعيد العسكري المفاجئ، كان ذلك الزعم باعثاً على السخرية لدى قطاع واسع من ملتقييه، لسببين اساسيين، أولهما: أن هادي المسنود بإرادات الدول العظمى، يتكئ على عصا مجلس الأمن التي أظهرت قابلية غير مألوفة من التطويع والاجماع على آراءه وقراراته، وثانيهما: نجاحه في صهر رأسي المؤسسة العسكرية التي كان الحديث عن هيكلتها محض إيغال في محظورات ماضوية.
التصاعد المنهجي للأحداث الدموية واتساع رقعة المواجهات في الضالع ومربعات جنوبية أخرى أضحى يضع مع التقادم الزمني تساؤلات عديدة حول حقيقة الغايات والنوايا الرئاسية التي اتخذت من نهج "غض الطرف" علناً وإذكاء جذوة الصراع خفاءً أسلوباً في التعاطي مع الواقع الدموي الحاز في نفوس الجميع.
تكتيكات المطبخ الرئاسي
حروب الرئيس هادي ووزير دفاعه في الجنوب بات تشبيهاً قريب الانحياز الى كشف تكتيكات الخفاء بالنسبة لأولئك الذين لم تنطلِ عليهم نظرية عدم قدرة الرجل على إزاحة قائد لواء عسكري.
بالنسبة لهؤلاء، بدا واضحاً أن تصاعد أحداث العنف دون قيام الرئيس بأي أدوار ولو حتى على طريقة "المفارعة" التي ينتهجها في التعاطي مع المغامرات العسكرية للمليشيا الحوثية في الشمال، ينبئ يقينياً عن رغبة رئاسية في بروز إفرازات ومألات جرى التخطيط للوصول إليها سلفاً في تكتيكات المطبخ الرئاسي ذي الصبغة الأبنية.
الإدراك اليقيني الذي أخذ يتخلق لدى هؤلاء كان ينقصه فقط استقراء الغايات والمألات التي يتطلع الرئيس والوزير إلى الوصول إليها جراء السيلان النازف للدماء في الضالع وبالتالي معرفة خلاصة ما يتغيا الرجلان أحداثه بفعل الحروب التي لم تكن تتماشى مع سياسات رئيس يؤثر عنه التروي والسلمية وعدم الإنبراء خلف نزعات الإحراب ودعوات الصراع.
المفارعة في الشمال والقصف في الجنوب
في تكتيكات المطبخ الرئاسي بدا أن ثمة ما يمكن له أن يعزز واقعية لذلك الإدراك اليقيني، فعلى طريقة القسمة الضيزى كان هادي بمعية وزير دفاعه الذي ناضل جاهداً للإبقاء عليه في قيادة الجيش، يتعاطى مع مشهدي الإحتراب في الشمال والجنوب بطريقة ضدية لافتة للنظر.
حين كانت المطالبات الشعبية والقبلية تتصاعد باتجاه دفع الرئيس هادي إلى اتخاذ مواقف حاسمة من اتساع رقعة الإحتراب الأهلي في الشمال الذي يغذيه توثب الحوثيون نحو الاستيلاء والتوسع العسكري والاستحواذ الجغرافي المضطرد، كان هادي شديد الميل إلى نظرية التروي وضبط الأعصاب في التعاطي مع طموحات حوثية غير مشروعة.
ومع أن تلك الطموحات في واقع الأمر لم تكن لتستثنيه من نتائجها الكارثية حين يبلغ الزحف الحوثي أزقة وشوارع العاصمة صنعاء إلا أن الرجل بدا شديد التمسك بنظرية "المفارع العظيم" التي حلت كبديل لمصطلح "المقلفد العظيم" الذي خلص اليمنيين من الاستحواذ العائلي على مفاصل الجيش والدولة.
التشبث الرئاسي بنظرية المفارعة بين مليشيا الحوثي وقبائل الشمال الذائدة عن حياض الكرامة والدفاع عن النفس، كان نهجاً يتعارض كلياً مع إطلاق يد العصا العسكرية الجائحة طولاً وعرضاً في مربعات الجنوب المثخن بجراحات وموروثات الصراع الطغماوي الزمراوي، وهو ما دفع كثيرين إلى التساؤل ببراءة لا تخلو من واقعية: لماذا يتعامل الرئيس هادي بنظرية القسمة الضيزى في التعاطي مع الحدثين؟، لماذا يطلق للجيش العنان ليقاتل دون هدف في الجنوب ويحول دون قيامه بأدوار الإسناد لقوى مجتمعية تدافع عن حق البقاء والكرامة في مواجهة تمدد جاهلي حوثي أعمى تقوده توهمات عن أحلام, ليلية تراود عبدالملك الحوثي الذي ينتظر لقاء الإمام/ علي بن ابي طالب -كرم الله وجهه- في المنام يومياً لينبئه عن الهدف التوسعي التالي للمليشيا الحوثية.
ليست حروبه، مصطلح يناضل البعض لتسويقه كمبررات لسلوك "المفارع العظيم" الذي تخلى عن واجبات بسط يد الدولة في الشمال منبرياً لبسطها دموياً في الجنوب النازف بالأشلاء والدماء.
وفق هؤلاء فالرجل الآتي إلى تموضع الرجل الأول من إرث صراعي مرير بين جناحي الطغمة والزمرة يرى في الاقتتال الشمالي ما يمكن أن يمنحه امتياز اعادة ترتيب خارطة التوازنات بين القوى الشمالية وصولاً إلى كسر أطواق وهمية يؤمن أنها تكبل يديه مع أن إرادات الدول العظمى كفيلة بمنحه القدرة على ترويض أكثر اللاعبين استعصاء وتعنتاً.
على طريقة خليها تعتصد واحنا بنتفرج" التي كان ينتهجها الرئيس السابق، بدا هادي شديد الميل إلى عدم مبارحة تموضع المفارعة شمالاً والضرب بيد من حديد جنوباً.
وبما أن تحقيق غايات الضرب الحديدي في الجنوب تتطلب غطاءً من الإلهاء الشعبي والنخبوي، فإن الاتجاه إلى حسم الاقتتال في الشمال وردع التوسع الحوثي المضطرد سيتسبب في صرف الاهتمام الإعلامي والشعبي والنخبوي باتجاه الصراع الذي يبدو مفتعلاً في مربعات المشهد الجنوبي وهو ما قد يتسبب في تقويض النتائج المرجح حدوثها كإفرازات لإذكاء جذوة الصراع في الجنوب.
الأدوار المستقبلية للجان الأبينية
في أبين يحتفظ الرئيس هادي ووزير دفاعه بمليشيا عسكرية جاء تشكيلها كضرورة لحظية لتحجيم تطلعات السيادة لأجنحة الشتات القاعدي، ومع أن تعليلات بقاء المليشيا التي تعرف باللجان الشعبية لم تعد حاضرة بفعل مألات التحجيم التي طالت طموحات تنظيم القاعدة في أبين، إلا أن ثمة غايات لا تبدو بائنة لتمكين هذه المليشيا من لعب أدوار مستقبلية في توازنات القوى العسكرية داخل الجنوب.
الحديث عن نوايا نقل اللواء 33 مدرع من الضالع يمكن أن يجيب على غيض من فيض التساؤلات بشأن مستقبل المليشيا الأبينية التي يتغيا بعض نافذي المطبخ الرئاسي منحها ذرائع ومبررات مبارحة التموضع الجغرافي الراهن باتجاه الانتشار كوحدات وألوية رسمية في مربعات جنوبية مختلفة.
بوسع ما سبق أن يكون أكثر اقتراباً من حقيقة تعليلات عدم إقالة ضبعان، ليس للمسألة هنا علاقة بحماية معنويات الجنود من الانكسار في مواجهة شعب يتظاهر سلمياً او عدم قدرة "المستأسد بدعم المجتمع الدولي" على إزاحة ضبعان، نظرية نقل اللواء برمته تبدو الأقرب إلى التصديق من تعليلات أخرى شديدة الاقتراب من التسطيح والاستخفاف بالوعي الجمعي.
مألات التحكم في الفرز الإقليمي
سياقات الربط بين شتات الأحداث الجنوبية يمكن أن تكتمل حين يأتي الحديث على العوائد الرئاسية المرجوة من المباحثات الماراثونية التي تجريها الوفود الرئاسية وجولاتها المكوكية مع القوى المعتدلة في الجنوب وتحديداً تيار مؤتمر القاهرة الذي يتزعمه الرئيسان/ علي ناصر محمد, وحيدر أبوبكر العطاس.
ثمة فرضية تتحدث عن نزوع رئاسي إلى إعادة ترتيب موازين القوى في متفاعلات المعادلة الجنوبية الراهنة، وبما أن التركيز الرئاسي يبدو منصباً على تموضعات القوى العسكرية، فإن استكمال فرضية إعادة الترتيب تتطلب تكريس واقع اصطفافي مساند أو على الأقل السعي إلى إنشاءه بموازاة غطاء صراعي مساعد على تمرير غايات يرى صانعوها صعوبة تنفيذها في أجواء السلم واللا احتراب.
قبل أن تكتمل ملامح الفرز الإقليمي المنتظر في الجنوب يتعين أن تكون ملحمة الصراع الدامي في الضالع وحضرموت قد أفرزت معطيات التشكيل المرجوة التي تمنح صانعيها مفاتيح التحكم في مألات الفرز الإقليمي وصولاً إلى تحديد القوى الصاعدة والمتحكمة على طريق تكريس الواقع الجديد.
ومع أن الحزب الاشتراكي اليمني بوصفه أحد اللاعبين في شطرنج اللعبة الجنوبية لا ينفك في بياناته الأخيرة يبدي تعارضاً في الرؤى والتوجهات مع التكتيكات الرئاسية داخل مربعات الجنوب إلا أن إداناته الشديدة التي بلغت حد الحديث عن تمادي هادي في استخدام القوة ضد الحراك تؤكد مستويات متقدمة من الخشية والقلق إزاء النواتج والمألات اللائحة.
من شأن الاستمرار في الحديث عن غايات حروب الرئيس ووزير دفاعه المفتعلة في الجنوب أن تكشف عن مزيد من الاستقراء وصولاً إلى تحديد الغايات النهائية وبالتالي إبقاء الباب مشرعاً لمزيد من الآراء الباحثة والمستقرءة والمتطلعة إلى معرفة حقيقة الحصاد المتوقع جنيه كنتاج لتكتيكات القبضة الحديدية التي اعتمدها المطبخ الرئاسي.
كعامل حافز لإفراز النواتج النهائية المنتظرة في متفاعلات المعادلة الصراعية الجنوبية
حين رُسمت معالم الطريق إلى بلوغ تلك النواتج النهائية لاشك أن مشيئات الطهاة أرادت -وفق آنف المعطيات- للواقع الجديد أن يتخلق على أنقاض دماء وأشلاء أبرياء لم يكن لهم من الأمر سوى أن وضعتهم الأقدار في طريق غايات لا تقيم وزناً للإرادات المغايرة ولا تلقي بالاً لحق الآخرين في الوجود تحت مظلة اتساع الوطن للجميع.. وكفى.
حسين اللسواس
بين القصف جنوباً والمفارعة شمالاً ..مألات حروب الرئيس ووزير دفاعه في الجنوب 1231