موضوع أثير على مستوى الساحة اليمنية، وتناولته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على نطاق واسع، ومفاده أن أحد قضاة المحكمة العليا ارتشى من إحدى الشركات الأجنبية العاملة في بلادنا بخمسمائة ألف دولار، أرادت الشركة أن تحظى بالحكم لصالحها، وسواء صحت هذه القضية، أو لم تصح, وإن كانت الدلائل تشير إلى صحتها، بيد أن هذا الأمر ليس غريباً على ساحة القضاء اليمني حتى نستنكره، وليست المشكلة هنا فقط، لأنها مسالة فردية قد تحدث في أي مؤسسة، لكن المشكلة أن مؤسسة القضاء ينخرها الفساد والظلم والرشوة وأصبح هو الأصل، فيها والنادر داخلها الصلاح والعفة ورفض الرشوة، ومن هنا لماذا ننقد القضاء في الرشوة؟ ومؤسسات الدولة كلها تقوم عليها وخاصة المؤسسات الأمنية التي يناط بها حماية الشعب، إن أخطر مؤسستين على الشعب إذا انهارت أنهار المجتمع هما المؤسسة القضائية والمؤسسة الأمنية، وهما في دولتنا منهارة جداً، ولذلك انتشر الظلم والعدوان وأكل القوي للضعيف، ونريد أن نتحدث عن السبب في انتشار الفساد في المؤسسة القضائية قبل الأمنية، لأن الأمن يتبع القضاء في الاستجابة لحكمه، وسبب فساد أي مؤسسة ناتج عن أصول تأسيسها، والمؤسسة القضائية اليمنية في اليمن أصل تأسيسها وقاعدته فاسد، فكانت ممارسة القائمين عليها فرع للأصل، فأصل تأسيسه قائم على حصره في الدائرة القضائية على مدرسة معينة لها اجتهادات قضائية منغلقة على تلك الطائفة المذهبية، ومن ثم حرم كثير من العلماء ممارسة القضاء لكونهم ليسوا تابعين للطائفية علمياً وعقائدية، ثم أن عهد الإمامة ولى قضاته القضاء، وأوجب على المتخاصمين دفع أجر التقاضي للقاضي، فتوسع القضاة في ذلك فقبلوا إضافة إلى الأجرة التي لم ينص على تحديدها على قبول الرشوة، تحت مبرر الأجرة فقبلوا الرشوة من الطرفين، ومالوا إلى من جيبه أكرم وفلوسه أكثر، واستمر هذا الأمر دون تدوين لأصول المرافعات بعد قيام الثورة، حيث ظلت وزارتي العدل والأوقاف إمامتين تحت نظام جهوري، يعبث بقوانينهما وتشريعاتهما وفق تدوين السجل الإمامي، ورغم تأسيس وزارة للعدل ووضع بنود الأجر للقضاة من خزينة الدولة، إلا أن أجرة القاضي لا تزال سارية المفعول حتى هذه الساعة عند كثير ممن يتولون القضاء، ولا يرون حرجاً في ذلك وفتحت كلية الشريعة والقانون وطرحت قوانين في مناهج الكلية، لتوضح ما الذي يكون عليه التشريع القضائي والمرافعات القضائية، لكن المنهج كان ضئيلاً وتطبيقه عسيراً، وأصبح المتخرج من كلية الشريعة والقانون يجهل القضاء وقوانينه والمرافعات فيه، لعدم استيعاب المنهج وكفاءته كذلك، إن المدونين لتشريعات القوانين كانوا من العجلة بحيث لم يقفوا على أصول الترافع والتقاضي في تراث الفقهاء بشمول، وأهملوا ربط قوانين القضاء والإجراءات بنهر العلم الشرعي، وفتح معهد عالي للقضاء ليرفع من مستوى المنتسبين له والمتخرجين من كلية الشريعة والقانون، لكن فئة معية استولت على المعهد، وفرضت عليه حجراً لأنها تعتقد أن مؤسسة القضاء لها وحدها دون سواها، ومن اخترقها فإنما تم تعيينه برشوة طائلة، أو حزبية مؤثرة داخل النظام الحاكم، وبعد الوحدة حاول المجلس الأعلى للقضاء والوزارة تدريب القضاة على أصول القضاء، وإيجاد نظام قضائي وقانون في المحاكم، وتقسيمها إلى تخصصات، لكن كان الاختلاط بين نظامين قضائيين في الجنوب والشمال، لاختلاف الفكرين في الدولتين، فسبب مشكلة عاد بضرره على الشعب، وبالنظر إلى القوانين تجدها أنها استحدثت واستقدمت من مصر والسودان والأردن، ولم يعد المشرعون إلى أصول التشريع القضائي عند علماء الإسلام من السلف والخلف، وإنما صارت مادة إجرائية خالية من التوجيه الأخلاقي للقاضي والمحامي وصاحب الدعوى والدفاع، مما كثر مبالغ الرشوة وأطال عمر الدعوى والدفاع في محاكمات أطول من عمر أجيال متلاحقة لصاحب الدعوى، وأصبحت الأحكام تصدر في طاقات من القماش تكفي لتكفين أسرة بكاملها، وعلى كل صحيفة يدفع للقاضي رشوة وللمحامي أجرة وللكاتب أجر كتابه، تلك الأحكام التي هي أطول من الطرق التي رصفها النظام الحاكم، وأصبح مفهوماً لكل ظالم يريد أخذ حقوق الغير وتضييعها يلجأ إلى القضاء، وما دام يملك المال فالقاضي والمحامي والكاتب والسلطة التنفيذية في خدمته، وأخيراً السلطة التنفيذية معه، هذا الفساد يحتاج لوقفة جادة للتخلص من فساد القضاء حتى لا يوجد فيه قاض فاسد، أما أن يترك للقاضي الجمع بين أخذ الأجرة على التقاضي وأخذ المرتب من الدولة، فهذه جريمة في حق القضاء النزيه، ولا شك أن للسلطة التنفيذية والحاكمة دور في فساد القضاء، وتعيين القضاة الفاسدين، وهذا لا يعني أنه لا يوجد مخلصون في القضاء، لكننا نطالب بإعادة هيكلة القضاء، ووضع قوانين واضحة في نظامه، تضمن حقوق المرافعات والدفاع، وأخيراً المؤسسة القضائية هي جزء من مؤسسات الدولة، فمتى صلحت منظومة المؤسسات صلح القضاء، وهذه المؤسسات لها رأس فمتى فسد فسدت سائر المؤسسات ومتى صلح صلحت سائر المؤسسات، وعلى الشعب الجد في البحث عن هذا الرأس ليكون صالحاً حتى تصلح الأرض والسماء وإلا فاستعدوا لارتفاع الفساد مع ارتفاع ثمن السلع .
د. عبد الله بجاش الحميري
فساد القضاء في وطننا لماذا؟ 1876