ترك قريته الحمراء, وتعليمه البدائي, وذهب للالتحاق بالسلك العسكري, كغيره من الفاشلين, الذين يفرون من أعباء الحياة ومشاقها إلى التجنيد أو بيع القات, مهنتي الكسالى - حد قول أحدهم.
انضم إلى صفوف الجيش المرابط في المناطق الوسطى, لاعتقاده أن تواجده هناك سيمنحه فرصة التسلق على أكتاف الآخرين للوصول إلى غايته, فوصلـ مستعيناً بوساطة قبليةـ إلى قيادة أحد الألوية العسكرية, حينها أمسك زمام القيادة بحذق المزارع الذي يقرأ خارطة المواسم الزراعية ويفك طلاسم المناخ ليوائم بين رغبة الطين وحركة المحراث, ما جعله يكسب ثقة قيادته العليا التي بدورها منحته فرصة الوصول إلى غايته المنشودة, إلَّا أن ثمة منغصاً كان يعيق اكتمال حلمه؛ إذ أن والدته حين دخلت عليه قبل سفره, غمغمت ببعض الكلمات التي لم يفهمها, ثم سألته:
ـ ولدي هل ستسافر..؟
ـ نعم.
ـ أخشى أن تظلم أحداً من زملائك فيصيبك مكروهاً رأيته في المنام!
ـ ماذا رأيتِ..؟
رأيت كُرات نار تسقط عليك من السماء فتحرق جسدك.
مازالت الرؤيا عالقة بذهنه, رغم كل السنين التي مرت, فهي تلوحُ أبداً أمام ناظرَيه, لذلك, قرر العودة إلى صنعاء ليكون عاقلاً لأحد أحيائها, حتى يتحاشى ظلم الآخرين الذي حذَّرت منه والدته, وفي نفس الوقت ينفذ الرغبة التي كانت تراوده منذ نعومة أظفاره.
ابتاع منزلاَ فاخراَ في أحد أحياء أمانة العاصمة, ثم استعان بأحد سكان الحي الأقوياء وطفق يدير شؤون الحي بعقلية الزعيم الذي يرى نفسه بمرآة مقعرة.
كان الحي مكتظاَ بالعصابات التي تتبادل أدوار اللصوصية للقضاء على كلُ جميلٍ فيه.
ثمة مجموعات متعددة المهام, بعضها تقوم بالنهب والسلب, وأخرى متخصصة بفصل التيار الكهربائي بهدف ابتزاز السكان, وثالثة لتعطيل مشروع المياه, ورابعة تسيطر على مداخل ومخارج الحي, وخامسة تقوم بحماية الفرق السابقة وتعمل على تسهيل مهامها..
أدرك العاقل أن العصابات ستُفشل جهوده الرامية إلى بسط نفوذه على الحي, فتبادرت إلى ذهنه فكرة التخلص منها, واحدة تلو الأخرى, لكن, سرعان ما تنبه لخطورة الفكرة التي مازالت تتخلق في ذهنه, فأجهضها, وشرع يؤلف قلوب بعض رموزهم, تارة بالمصاهرة, وأخرى بالمال, علّه يأمن مكرهم, وفي نفس الوقت يستخدمهم كأدوات ضغط فاعلة في حال ظهور من ينازعه السلطة, غير أنه في نهاية المطاف أدرك أن سياسة استرضاء العصابات صرفته عن سكان الحي وعن قضاياهم, فبدأ نعت تلك العصابات ـ علناً ـ بالثعابين والانتهازيين, وقطاع الطرق, كمحاولة يائسة لاسترضاء السكان, بينما ظل شارداً في غفلته يغض الطرف عن ابتزازهم واستراق لقمة عيشهم, الأمر الذي جعلهم - دون حيلة - يتضرعون إلى الله أن يرفع عنهم جور العاقل وظلمه وأن يسلط عليه غضبه وسخطه.
لم تمضِ سوى أيام قلائل حتى حشدت السماء جيوشها, وأعلن الهزيم حالة الطوارئ, فثار في الأرض المطر؛ السيول تقفز من المنحدرات والجبال القريبة بغضب, الثعابين متبرمة تفتش عن جحورٍ خارج الحي لتختفي فيها, وحده العاقل كان يطل من شرفة منزله ثم يعود إلى الداخل غير آبه بالطوفان الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الحي.. من بجواره يستجدونه عمل أي شيء لتدارك الغرق الذي بات وشيكاً, لكنه يطمئنهم بأن منزله عتي أمام الأعاصير, والكوارث, طفح الكيل بهم, ولم يبقَ في قوس صبرهم منزع, فتركوه وذهبوا يبحثون عن أماكن يختبئون فيها, فمنهم من تسلق الأشجار الكبيرة القريبة من الحي وآخرون حشروا أنفسهم في تلك الجحور التي سبقتهم الثعابين إليها, كلٌ يبحث عن مأوى يعصمه من الماء, لم يبق بجوار العاقل سوى أسرته وآخرون مازالوا في ضلالهم القديم..!!
الإعصار يقترب من الحي, السيول تزحف بجنون, النساء بدأن العويل, الأطفال يشتد صراخهم, المياه تداهم منزل العاقل من كل الجهات فتجرف كل ما وقع في طريقها.. لا عاصم اليوم من أمر الله, ولا حصانة!
الشوارع امتلأت بالجثث, والبيوت تهدمت على رؤوس قاطنيها, وحده منزل العاقل صمد في وجه الغضب بعد أن تخلى عن ساكنيه.
توقفت ثورة المطر فخرجت الثعابين من جحورها سالمة, ونزل أولئك الذين تسلقوا الأشجار دون أن يصابوا بأذى, عادوا إلى الحي يتقاسمون تركة العاقل الضرير, بينما بقي في العراء عارياً, يتأرجح بين الحياة والموت.