منذ زمن طويل وأنا أسمع وأقرأ و أشاهد في مختلف وسائل الإعلام عن الاقتصاد والبناء الوطني وعن الجهود المبذولة في رفع مستوى الدولة اقتصادياً واجتماعياً وعن الخبراء الاقتصاديين والمؤتمرات الاقتصادية الإقليمية والدولية وغيرها من المجالات المتعلقة بالبناء الاقتصادي ولازلت أسمع وأقرأ وأشاهد عن ذلك دون أدنى اختلاف بل زيادة في التطور طبعاً هذا ما يتعلق بالشأن الخارجي, أما بالنسبة على الصعيد المحلي فلا أسمع ولا أقرأ ولا أشاهد سوى معادلة عكسية من شأنها توسعة الفساد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
فهي معادلة تنهش في جسد الوطن كلما حاول النهوض, فكلما بدأ يرى بصيص أمل في التقدم- وآخر ذلك انضمام بلادنا إلى منظمة التجارة العالمية- كلما انهال عليه أعداء الله والوطن بالضرب المبرح بينما يعمل خبرائنا جنباً إلى جنب مع خبراء العالم من أجل إصلاح وبناء اقتصادات دول أخرى.
لا أقول بأنهم مهملون أو لا يأبهون باقتصاد بلادنا أو أنهم عملاء ضده, بل أنهم حين يتجهون نحو بناء الوطن يواجهون مالم يكن في الحسبان فيدخلون في معارك ضارية حامية الوطيس تكاد تزيغ أبصارهم من شدة ما يلاقوه من غلبة الجهلة ونفوذ المتسلطين وأصحاب المطامع وغير ذلك من صنائع الأسلحة الفتاكة فكراً وقانوناً.
إن كل دولة في العالم سواء كانت صغيرة أم كبيرة, مملكة أم جمهورية مسلمة أم مسيحية لها مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية ولها حكومتها ودستورها الذي يحفظ لها سيادتها وأمنها واستقرارها, فلا يجوز أن نحكم على دولة متطورة أو صناعية بأنها تتمتع بالتطور والتقدم نتيجة لحجمها أو نظام حكمها أو ديانتها أو ما شابه ذلك.
فكم من دولة متطورة تختلف عن أخرى بتلك المبادئ وكم من دولة نامية ينطبق عليها ذلك ولكن هناك أشياء أساسية تقوم على عاتقها جميع مناحي الحياة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ولعل أهمها العلماء والخبراء والجيش وسيادة القانون.
كما هو معروف فإن اليمن هي إحدى الدول الغنية والتي تتمتع بوفرة الموارد الاقتصادية وتمتلك المرتكزات الأساسية لبناء الاقتصاد والمجتمع اليمني بأسره, غير أنه تم استبدال سيادة القانون بسيادة الرشوة والوساطة, ما إن تسلل مرض الرشوة الخبيث إلى هيكل الدولة وتم غض البصر عنه من قبل المعنيين زاد تدريجياً واستشرى شيئاً فشيئاً إلى أن وصل إلى أصغر مجال من مجالات الحياة العملية الحكومية والخاصة حتى صعب علينا استئصاله, والأمر العجيب أننا نحن أبناء هذا الوطن الغالي نستخدم هذه الآلة السامة بأيدينا وننهش بها جسد وطننا ونقاتله ونبكي من الظلم وندَّعي الوطنية.
إن من يحاول إقناع نفسه بأحقية الحياة الكريمة دون غيره ويعمل على ذلك فهو مخطئ وهالك ومن يؤمن بأحقية الحياة الكريمة مع ومثل غيره ولا يعمل على ذلك فهو مخطئ وهالك, لأن الحياة الكريمة لا تكون في الكلام والانتقادات والمظاهرات والتنديدات وغيرها بل تكون بالتكاتف والتكافل والعمل ومحاربة الفساد أولاً بأول والبدء بالنفس قبل الغير واستخدام العقل والحكمة لا القوة والسلاح والتعصب والتشدد.
إن ما تشهده بلادنا اليوم من أزمة سياسية عالقة وأزمة اقتصادية خانقة وحروب دامية ماهي إلا ردود أفعال لأفعالٍ سابقة زادت الضغط تدريجياً على الناس حتى تولد هذا الانفجار الهائل’ فلو نظرنا إلى هذه الأفعال السيئة لوجدنا أن أساسها الرشوة والوساطة, فبعمل الرشوة نتجت العنصرية والمناطقية, وصنعت الرشوة بيئة خصبة للقاعدة والمخربين, وساعدت الرشوة على تهيئة الأجواء أمام العابثين والحاقدين للوطن, وسمحت الرشوة لبعض الدول الأخرى ذات المصالح الإقليمية والجغرافية والسياسية والمذهبية والأفكار الخبيثة وغيرها بالتدخل والدخول إلى أرض الوطن والعبث بمقدراته ومحاربة الاقتصاد اليمني عن طريق اليمنيين حتى أصبح الاقتصاد محصور على شخصيات والسياسة محصورة على شخصيات والسيادة لشخصيات وكأن اليمن يفتقر للرجال والمؤهلين وأولو العلم والنهى.
الرشوة ألقت بالقانون في غيابت جب الفساد وصنعت من الظلم صنماً يعبده المتسلطون والمتنفذون, يتعرون من الإنسانية والكرامة ويشربون أفكار الشباب وطموحاتهم كؤوساً تسكرهم ويرقصون على جثث المساكين ويبيعون الوطن واقتصاداته للشيطان, كل ذلك بعد أن صنعوا لأنفسهم حماية بشرية عن طريق القاعدة والقبيلة والأدهى والأمر أن تجد حمايتهم من أفراد الجيش, إن علاقة الجيش بالاقتصاد هي علاقة وثيقة ومهمة ولا يقوم الاقتصاد إلا بالجيش لأن الجيش مؤسسة مستقلة وظيفته حماية الوطن لا حماية الأشخاص أو القبائل فلا ينمو الاقتصاد إلا بصلاح الجيش وكلما دخلت الرشوة والفساد في الجيش كلما زادت هشاشة الدولة ابتداء بانهيار الاقتصاد ومروراً بالتدخلات السرية والعلنية الخارجية وانتهاء بالحروب الأهلية وبيع الوطن من أجل توفير لقمة العيش.
فبدخول الرشوة في كيان الجيش جعلت منه شبه قبيلة يُستخدم أبنائها في القتال من أجل حماية شخصية أو مجموعة مهما كان الخطأ ظلمٌ أو إنصاف دون مبالاة وتم تعبئتهم بأفكار مناطقية وقبلية هدامة وكانت تلك البداية عن طريق استقطاب الأميون والغجر وأولوا الأرحام والأقارب ومحاربة المتعلمون والوطنيون حتى ضعف بأوساطهم مفهوم الوطنية والاقتصاد وساد الظلم في المجتمع واختلط الحابل بالنابل وأصبح الواحد منهم لا يفكر إلا في نفسه فقط وكيفية جلب الأموال على حساب وأرواح الآخرين, سخَّروا المنشئات والمناصب من أجل السيادة والشهرة والمال دون النظر إلى ما قد يؤديه ذلك من خراب على الوطن والمواطن.
ومن هنا لا أقول أن الجيش كله أو الغالبية منه ضمن ذلك المفهوم ولكن القليل منهم من لا يهمه الوطن ولا يعرف شيء اسمه الوطن وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الحاقدون والمخربون كأداة للتخريب وثغرة للدخول إلى أعماق البلاد والتغلغل في مؤسسات الوطن المدنية والعسكرية, فبدل الاتجاه في حماية الوطن واقتصاداته وردع الظالم فإنهم يتجهون نحو حماية الشخصيات والمشايخ ورفع الظالم ويقاتلون من أجل مصالح ومقاضاة أغراض بعيدة عن الوطن فيسيئون بذلك إلى سمعة المؤسسة العسكرية والأمنية ككل بينما يتفرغ الناعقون والمرجفون في الوطن لنشر الأفكار السيئة عن اليمن ويستدلون بما هو حاصل فيرعبون المستثمرين والسياح والخبراء ويمنعون الماعون.
وعندما ننظر للأحداث الأخيرة الحاصلة في بلادنا من هجمات إرهابية غالبيتها تمس المؤسسة العسكرية فإننا نقف حائرون عن فهم هذه اللعبة الخبيثة التي يلعبها الجبناء والدليل على ذلك ما حدث في ميدان السبعين وكلية الشرطة وحادثة العرضي والسجن المركزي وما بين ذلك من اغتيالات وهجمات في جميع أنحاء الوطن, كلها أعمال إرهابية جبانة و كل ذلك يبقى علامة استفهام تدور برؤوس المستثمرين وأصحاب الأموال الذين كان لهم تفكير سابق باستثمارها في اليمن, فإذا كانت الخيانة تقع في صفوف الجيش نفسه فكيف بهم ومن سيحميهم أو سيقف إلى جانبهم من اعتداءات الإرهابيين والمخربين.
ألم يكن مثل ذلك سببه الرشوة والتساهل وبيع الوطن والدين بثمن بخس؟ أوَ لم تـُـدخِل الرشوة والوساطة الإرهابيين والحاقدين إلى صفوف الجيش وصنعت فيه نقطة ضعف في عيون الآخرين؟
الرشوة أوصلت السلاح والعتاد إلى أيد الإرهابيين وصنعت من ذلك جسراً خفياً لهم يتنقلون عبره إلى أوساط الجيش. فحاربوا الوطنية في قلوب بعض منتسبيه وأجبروا البعض الآخر على الصمت والألم وترك الإخلاص بالعمل.
وقد تعمل الرشوة مالم يستطع أحدنا تصوره, فربما يصل الإرهابيون إن لم يكونوا قد وصلوا إلى المواقع الحساسة في الجيش وينتهزون فيها الفرص وتصل إليهم الأسرار والمعلومات الأمنية وبهذا تسقط الدولة بأيديهم يسيرونها كيفما شاءوا بكل ثقة وأمان, وإن أردنا حماية البلاد فلا بد من أن نقوم بحرب شعواء على الفاسدين والإرهابيين وليس مفهوم الحرب هنا هو استخدام السلاح والعنف بل محاربة الرشوة والمرتشون وإيقافهم عند حدهم وعدم السماح لهم بالعبث بالوطن, فإذا صلحت المؤسسة العسكرية والأمنية صلح الاقتصاد وإذا صلح الاقتصاد فسوف تسود المواطنة والوطنية وسينتحر الحاقدون على أسوار اليمن وسيأكلون أنفسهم عندما لا يجدوا ما يأكلون.
شهاب محمد رسام
الرشوة تأكل الوطن كما تأكل النار الحطب 1373