(1) رغم أن الثورة اليمنية كانت معجزة المعجزات في الثورات العربية، ورغم أنها أول ثورة تجد الاعتراف الدولي عبر منح جائزة نوبل مستحقة لرمزها توكل كرمان، إلا أنها ظلت أشبه بالأخ اليتيم للثورات العربية الأخرى.
فالإعلام لا يلتفت إليها إلا بعد أن يطوف على الثورات الأخرى، ولا يعطيها إلا فرض الكفاية من التغطية، وهي بالقطع لا تحتل صدارة الاهتمام في الرأي العام أو المحافل الدولية, وقد كانت تلك الثورة كذلك أول ثورة عربية تتعرض لمحاولات احتواء إقليمي مدعومة دولياً.
(2)
كان اليمن آخر المرشحين لأي ثورة عربية، لأن نظامه كان أحد أذكى الأنظمة وأقدرها على التلون والتأقلم مع الأوضاع الداخلية والدولية, فخطاب النظام يتناغم مع المشاعر الشعبية في دعم القضايا العربية، وقد كان سباقاً في احتواء التيارات الشعبية، خاصة التيارات الإسلامية، إضافة إلى تحالفه مع التيارات القومية واليسارية في ربيع اليمن الأول الذي شهد الوحدة والانفتاح الديمقراطي العربي الأول عام 1990.
(3)
ويشبه ربيع اليمن ذاك إلى حد كبير ‘ربيع السودان’ الذي حل عام 2005م مع اتفاق السلام الشامل.
ففي اليمن لعب الحزب الاشتراكي نفس الدور الذي لعبته الحركة الشعبية في إقناع الجنوب بالوحدة وضمان مجال الحركة والحريات لبقية القوى السياسية. وفي الحالين، قاد النظام رحلة النكوص عن الديمقراطية والوحدة، وتكور على نفسه شأن بقية أنظمة ‘الثقب الأسود’ العربية الأخرى.
ولكن كلا النظامين ترك ما يكفي من المساحة للحريات لتجنب الانفجار، واجتهد في تقسيم المعارضة, ورغم أن النظام اليمني بدا كما لو كان بلغ نهاية المطاف في عام 2003م حين قررت المعارضة التوحد في تكتل أحزاب اللقاء المشترك، إلا أن مناوراته ووعوده جعلته أبعد المرشحين عن الثورة.
(4)
بنفس القدر، كان اليمن عند الكثيرين أضعف المرشحين لنجاح ثورته بعد قيامها، لأن الانطباع كان أن البلد مرشح للتصدع والحرب الأهلية بسبب الانقسامات القبلية وانتشار السلاح، مع وجود حركة انفصالية في الجنوب، وحركات مسلحة مثل القاعدة والحوثيين، منخرطة في صراع مع الدولة وطوائف أخرى في المجتمع.
(5)
إلا أن اليمن مع ذلك أدهش الجميع بمعجزته الأولى، حين ظلت ثورته سلمية رغم استفزازات النظام ضد من اختاروا أن يكونوا عزلاً رغم أن السلاح في اليمن متوفر أكثر من الخبز, حافظ اليمن الثائر كذلك على وحدته رغم نبوءات المتوجسين، ولم تخف قبيلة علي عبدالله صالح لنجدته كما توهم، بل قادت الثورة ضده, ولم يتحول الجيش إلى أداة قمع في يد النظام رغم تولية أقارب صالح قيادة معظم وحداته، بل انقسم على نفسه، مما حيده عملياً في الصراع.
(6)
المعجزة الثانية كانت نجاح الحوار الوطني الذي أهدي إلى الثورات العربية بإعلان نتائجه في ذلك التاريخ السحري، الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، للتذكير بعظمة ثورة مصر التي ارتدت على عقبيها، ورضخت لدكتاتور جديد بعد كل تلك التضحيات, وقد تصادف هذا الانتصار العظيم مع ذلك الانتصار المستحق لأولى الثورات العربية وأكثرها إلهاماً، الثورة التونسية المجيدة (بحسب تسمية عزمي بشارة)، التي حققت الوفاق وأقرت دستورها في نفس تلك الأيام. ولكن الانتصار اليمني كان المعجزة الأكبر لأن القليلين توقعوه مع ما يشهده اليمن من انقسامات وعنف.
(7)
لا بد من التوقف بكثير من الاهتمام والإجلال- أمام هذه المعجزة اليمنية الجديدة، ليس فقط لأنها تمنحنا، مع المعجزة التونسية، الأمل والعزاء في هذه الأيام المظلمة التي تشهد انتكاسات سوريا ومصر ومأساة ليبيا، بل لأنها تقدم الدروس والعبر في كيفية انتزاع النجاح من بين فكي الفشل, فهذا النجاح إنجاز عظيم لكل شعوب المنطقة، يستحق كل من ساهم في تحقيقه كل تقدير وشكر.
(8)
أكثر دولة تحتاج إلى استقاء العبرة من المعجزة اليمنية هي السودان، بسبب تشابه أوضاع البلدين سياسياً واجتماعياً وتاريخياً ومن ناحية الطوبوغرافيا والجيوغرافيا السياسية.
فكلاهما يتميز بسطوة القبلية ونفوذ القوى التقليدية والاستقطاب بين أقاليمه، وبين شماله وجنوبه, وإذا نجح الوفاق الوطني في اليمن، فهو أحرى بالنجاح في السودان.
(9)
لنتذكر أن البداية في اليمن كانت بالتوافق على حكومة انتقالية تراضى عليها الجميع، وإن كان ذلك تم بضغوط (وحوافز) إقليمية ودولية، ساعد على نجاحها احتياج الرئيس لرحلة علاج إلى الخارج فتحت المجال لنائبه لتولي السلطة وقيادة الحوار. ولكن هذا ليس الشرط الوحيد، بل لا بد كذلك من جدية من كل الأطراف في الحوار والرغبة في التوصل إلى حلول غير إقصائية, فلنستلهم المعجزة اليمنية لخلق معجزة سودانية مماثلة تخرج البلد من أزمته وتساعده على انطلاق طال انتظاره.
*نقلاً عن القدس العربي
د. عبد الوهاب الأفندي
دروس ثورة اليمن العظيمة للسودان وغيره 1083