لم يبالغ اليمنيون في الحديث عن (معجزة) الحوار الذي دخلوا إليه في الثامن عشر من مارس الماضي مثقلين بصراعاتهم وخلافاتهم وخصوماتهم وخرجوا منه بعد عشرة أشهر متحدين ومتفقين على طي صفحة الماضي، والالتفات إلى المستقبل الذي يتطلعون اليه.. حيث لا مبالغة في ذلك الوصف إذا ما كان الحديث عن بلد اقترن تاريخه المعاصر بالعنف والانقسامات والحروب الداخلية والنزاعات القبلية وفوضى انتشار السلاح والعصبيات الجهوية والمناطقية والصراع على السلطة.
وفي ظل هذه الإكراهات وحصادها المر على الواقع اليمني فإن اتفاق اليمنيون على حل مشكلاتهم وقضاياهم عن طريق الحوار بدلاً عن السلاح يعد في حد ذاته تطوراً نوعياً وإنجازاً تاريخياً يرقى بالفعل إلى مستوى (المعجزة)خصوصاً إذا ما كان ذلك الاتفاق قد بني على تشخيص لواقعٍ قائم بات تجاهله باهظ الكلفة والثمن وهو ربما ما أدركه عقلاء هذا البلد الذين وجدوا أنه لا سبيل للخروج من هذا النفق المظلم إلا بالعودة إلى جادة الصواب والابتعاد عن المكابرة والعناد والمغامرات البائسة التي تتنافى مع المنطق السليم، وروح العصر وأبسط قواعد التفكير الواقعي.
وخلافاً لكل التوقعات فقد أفلح المتحاورون في الوصول إلى لغة مشتركة كسرت القيود والعصبية التي تسيطر على العقل والفكر السياسي والمجتمعي عند كل منعطف بطريقة لا تبدو مسيطرةً عليها لعدم وجود أية منهجية لإدارة الخلافات أو تقاليد لاحتواء التناقضات أو ثوابت متفق عليها تقود الأطراف المتصارعة إلى حوار عقلاني يقوم على مقارعة الحجة بالحجة, والرأي بالرأي إلى درجة كان فيها الانقسام يلد انقساماً، والخلاف ينتج خلافاً والصراع يفضي إلى مسلسل من الصراعات والنزاعات التي تحرق كل ما حولها.. ولأن مصلحة اليمن كانت حاضرة في الحوار الأخير فقد أمكن للمتحاورين التغلب على خلافاتهم وتجنيب بلادهم أسوأ السيناريوهات التي كانت تنتظرها ومن ذلك تحولها إلى دولة فاشلة وصومال آخر في الجزيرة العربية.
لقد انجز الحوار اليمني إطاراً نظرياً وحلولاً حاسمة للكثير من القضايا والمشكلات التي تقف وراء الأزمات التي يعاني منها اليمن في الوقت الراهن من بينها القضية الجنوبية وقضية صعدة والقضايا ذات الصلة ببناء الدولة الاتحادية الجديدة التي ستشكل بديلاً عن الدولة الاندماجية القائمة بعد أن جرب اليمنيون الانفصال والذي لم يكن حلاً بل إنه الذي قادهم إلى عدة حروب شطرية وجربوا الدولة المركزية والتي لم تحقق لهم طموحاتهم ليتفقوا أخيراً على الانتقال إلى النظام الاتحادي الذي ستتوزع فيه الصلاحيات بين المركز والأقاليم إلا أنه وبرغم هذا التقدم المحرز فإن مستقبل هذا البلد سيظل مرهوناً بقدرة أبنائه وقياداته السياسية على ترجمة مخرجات الحوار على أرض الواقع من خلال خطة مزمّنة تكون فيها الأولوية لإيقاف التدهور الأمني واستشراء حالات العنف والذي تبدو بعض مظاهره الآن بارزة من خلال المعارك الدائرة بين الحوثيين وجماعات قبلية في شمال الشمال وفي التوترات التي تتصاعد في حضرموت والضالع وغيرهما من المحافظات الجنوبية بفعل رفض الأجنحة المتشددة في الحراك الجنوبي للعملية السياسية ودعوة بعضها إلى المقاومة المسلحة لسلطات الدولة فضلاً عن نشاط تنظيم القاعدة الذي نفذ في الأشهر الأخيرة عشرات العمليات الدامية التي استهدفت قوات الجيش والأمن بشكل أساسي.
ومن دون مسارعة الحكومة اليمنية إلى إعادة بسط نفوذها في مناطق (الفراغ الأمني) فإن العملية السياسية برمتها ستظل مهددةً جراء استمرار العنف الكفيل بتآكل بنية الدولة إن لم يؤدِ إلى انهيارها وتفككها واشتعالها بكل أنواع الحروب القائمة على الهويات الجزئية.
الرياض
علي ناجي الرعوي
هل تجاوز اليمن سيناريو الدولة الفاشلة..؟ 1832