لعل ما يميز القضية الفلسطينية عن غيرها من قضايا التحرر المماثلة لها هو أن أصحابها الذين تنسب إليهم سياسياً وجغرافياً لا يملكون وحدهم منفردين اتخاذ قرارات مصيرية بخصوصها في مواجهة الطرف الآخر في الصراع دون تدخل إحدى إرادتين أخريين فرضتهما الجغرافيا والتاريخ والعقيدة والمصلحة المشتركة.
هاتان الإرادتان تمثلان دائرتي العروبة والإسلام بصرف النظر عن تداخلهما أو عن تعددية الكيانات والجماعات والفواعل التي تنطلق من إحدى هاتين الدائرتين.
إن ما يعطي هاتين الدائرتين مصداقية التأثير وحتمية التدخل هو أن تأثير أي منهما لا يتجلى في شكل مؤثر دخيل يمثل إرادة خارجية تعبر عن مصالح تتناقض مع مصالح الفلسطينيين، بل يجد له استجابة فلسطينية مكملة بسبب امتداد كلتا الدائرتين في المكونات الاجتماعية والثقافية والسياسية والعقيدية للفلسطينيين أنفسهم، بحيث لا يمكن تصور أي تشكل للإرادة الفلسطينية أو تبلور لأي مشروع وطني فلسطيني دون أن يكون لهاتين الدائرتين امتداد عضوي وتأثير على هذا التشكل والتبلور.
ولهذا لا يمكن النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها فقط قضية تحرر وحقوق محصورة في جماعة وطنية ترتبط مع غيرها من المجتمعات ببعض العلاقات الإنسانية والمصلحية التي يمكن أن تستخدمها سلاحاً في صراعها مع خصمها إذا رأت أن ذلك يخدم قضيتها.
رغم أن الفلسطينيين هم من يعيشون المواجهة اليومية مع عدوهم الإسرائيلي ويدفعون ثمناً باهظاً، فإن هذا الصراع لا يمكن له أن يجرى بمعزل عن هاتين الدائرتين، فلا بد أن يكون منسجماً ولو نسبياً مع إحدى هاتين الدائرتين.
فالمقاومة المسلحة والتفاوض والتنازل والتشدد لا ينتج عن أي منهم أثر ولا يكتب لأي منهم نجاح أو فشل ما لم تحتضنه إحدى هاتين الدائرتين.
لا شك أن الفلسطينيين هم أصحاب المبادرة، وهم أول من يدفع ثمن هذه الخيارات، ولكنهم عندما يختارون المقاومة المسلحة أو يذهبون إلى التفاوض فإن الجزء الأكبر من هذا الخيار يكون مستنداً على التحولات والتغيرات التي تطرأ على بعض مكونات إحدى هاتين الدائرتين سواء في بعدها العربي أو الإسلامي.
ليس هناك من شك في أن مواقف القوى الكبرى ولا سيما الغربية منها له التأثير الأكبر على مجرى القضية الفلسطينية، ولكن ذلك أيضاً لا يتم إلا عبر ومن خلال التحكم والتأثير في هاتين الدائرتين، فالاستفراد بالفلسطينيين والضغط عليهم لا يكون إلا نتيجة حتمية لطبيعة العلاقة التي يفرضها الغرب على هاتين الدائرتين.
لقد كانت القضية الفلسطينية حاضرة في الشعارات والسياسات المعلنة لكل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم في المنطقة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي، سواء تلك التي قامت على الانقلابات العسكرية أو التي أتت بها حركات التحرر.
فقد كان من معايير شرعية ووطنية وقومية هذه الأنظمة موقفها المعلن من القضية الفلسطينية، وبصرف النظر عن مدى مصداقية بعض هذه المواقف وعن توظيف الحكام لها لأجل استمراريتهم في السلطة، فإن ذلك كان مؤشراً على جملة من الوقائع منها:
1- اعتبار القضية الفلسطينية جزءا من القضايا الوطنية في كل هذه البلدان مثلها مثل قضايا التحرر الاقتصادي والسياسي ومكافحة الفقر والأمية على الصعيد الوطني أو هكذا تبدو نظريا في الأدبيات السياسية لهذه الأنظمة.
2- ليست هناك خصوصية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهو جزء من الصراع العربي الإسرائيلي ولا يجرؤ أحد، سواء من الطرف الفلسطيني أو العربي على المطالبة بتلك الخصوصية، بما في ذلك تلك الأنظمة التي تتمنى أن تتحلل من عبء الالتزام -حتى وإن كان نظرياً فقط- من هذه القضية وتركها لأهلها يفعلون بها ما يشاؤون، وذلك لاعتقاد بعضهم أن القضية الفلسطينية هي مصدر إشكالية العلاقة مع الغرب.
3- ضآلة حضور وتأثير الدائرة الإسلامية على القضية الفلسطينية سواء تمثلت تلك الدائرة في الدول والكيانات الإسلامية غير العربية أو في الأطروحات الإسلامية ورؤيتها العقائدية لطبيعة هذا الصراع.
لقد شهدت مرحلة ما عرف بالمد القومي شبه احتكار للقضية الفلسطينية من قبل الدائرة العربية، سواء كان ذلك من خلال التزام كل الدول العربية شكلياً أو فعلياً بالمشاركة في الصراع، أو من خلال تسويد الرؤية القومية في النظر إلى القضية والصراع معاً.
غير أن التطورات السياسية اللاحقة التي شهدتها المنطقة العربية، بدءا باتفاقية كامب ديفيد وانتهاء باتفاقية أوسلو، أدت إلى تراجع الرؤية القومية، وأدخلت القضية الفلسطينية في مرحلة أصبح فيها الصراع فلسطينياً إسرائيلياً، وتراجع فيها دور الدائرة العربية ممثلة في الأنظمة السياسية إلى مجرد مساند ووسيط، بينما ازداد حضور وتأثير الدائرة الإسلامية بظهور قوى إقليمية مثل إيران وتركيا.
استيقظ العالم على زلزال ما عرف بثورات الربيع العربي، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ المنطقة طالت آثاره كل مكونات الواقع السياسي العربي، لكن حضور القضية الفلسطينية في المشهد السياسي الذي نتج عن هذه الثورات منذ ثلاث سنوات وحتى الآن، اختلف عن حضورها في المشهد السياسي العربي الذي كان سائداً إبان التغيرات والانقلابات وحركات التحرر منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى العشرية الأخيرة منه.
فهل معنى ذلك أن القضية الفلسطينية قد سقطت من الذاكرة العربية في زحمة أحداث الربيع العربي.
لعله من المنصف عدم إصدار أحكام انطلاقاً من هذه المقارنة المبسترة دون الأخذ بعين الاعتبار تبدلات الواقع واختلاف طبيعة الحدث، فما جرى في الستين سنة الماضية أنه كانت هناك حركات تحرر وانقلابات عسكرية يجمعها خطاب تحرري واحد موجه إلى عدو خارجي تحدده جملة من المفردات، من أمثال، الاستعمار والرأسمالية والصهيونية والعنصرية والاستغلال والإمبريالية.
بصرف النظر عن صدق أو عدم صدق من يتبنى هذا الخطاب، فإن القضية الفلسطينية لا بد أن تكون جزءاً منه باعتبارها جزءاً من قضية التحرر القومي، حتى إنها في بعض الأحيان تجرى الإشارة إليها في البيان الأول لبعض الانقلابات العسكرية سعياً منها للحصول على الشرعية ولتأكيد تحرريتها وقوميتها.
هذا الخطاب لم يكن هو خطاب ثورات الربيع العربي التي كانت ثورات تحرر من عدو داخلي، فقد تحول الرفض والقنوط بين مختلف فئات المجتمع في هذه البلدان إلى تمرد عفوي حتى بلغ مرحلة الفعل الثوري الموجه ضد فساد وطغيان الأنظمة وانسداد أفق المستقبل السياسي أمام هذه الشعوب.
ولهذا فإن خطاب هذه الثورات كان موجهاً ضد الديكتاتورية واحتكار السلطة ومصادرة حرية التعبير وانعدام المساواة وشخصنة الدولة وعدم خضوعها للقانون.
قامت هذه الثورات من أجل تحقيق مطالب وحقوق وطنية، وبالتالي فإن خطاباتها وشعاراتها تميز بجملة من الخصائص، منها:
أولاً: كانت خالية من الإشارة إلى أي عدو خارجي، لأنها كانت في صراع مع عدو داخلي ليس من السهل التغلب عليه، ولهذا لم تكن في وارد البحث عن أعداء إضافيين، ولا سيما أن الأنظمة التي كانت في صراع معها كانت تصف بعض القوى المشاركة في هذه الثورات بأنها إرهابية ومتطرفة وتشكل خطراً ضد الغرب وأمن إسرائيل.
بالتالي سعت هذه الثورات إلى ضمان عدم اصطفاف الغرب إلى جانب الأنظمة، ومن هنا رأت -على ما يبدو- قيادات هذه الثورات أنه من الحكمة الابتعاد عن كل شعار أو خطاب يستفز الغرب، بما في ذلك القضية الفلسطينية وإسرائيل.
ثانياً: لم يكن في خطابات هذه الثورات نفساً قومي، لأن بعض هذه الأنظمة التي تواجهها كانت تستظل بشعارات قومية، بما في ذلك قضية فلسطين وتستحل في الوقت نفسه حرمات وحقوق ودماء شعوبها، فبدا وكأن كل الأطروحات القومية كانت في خدمة تسلط وطغيان هذه الأنظمة، ولذا كان البديل خطاباً ثورياً جديداً يستند على مرجعيات قطرية وطنية.
لم يكن صمت خطاب ثورات الربيع العربي عن القضية الفلسطينية بسبب الصراع مع الأنظمة هو السبب الوحيد لغياب هذه القضية عن الأجندة المعلنة لهذه الثورات، بل هناك أسباب تمثلت في الأوضاع التي سادت بعد إسقاط الأنظمة، والتي أهمها:
1- إشكالية الهدم والبناء: لقد وجدت هذه الثورات نفسها أمام تركة ثقيلة للأنظمة السابقة تمثلت في ضرورة إصلاح وإعادة بناء مؤسسات وبنيات الدولة، وفي بعض الأحيان بناء مؤسسات جديدة نظراً لعدم وجودها في ظل النظام السابق.
ويعنى هذا الانكفاء على الداخل واستغراق كل مكونات المجتمع السياسي والمدني في الشأن الداخلي، مما يجعل كل ما يقع خارج الحدود مهما بلغت درجة ارتباطه وحيويته مؤجلاً، وقد ينطبق هذا على القضية الفلسطينية بالنسبة لهذه الثورات.
2- الصراع الداخلي: لا شك أن القوى التي قادت هذه الثورات لم يكن بين معظمها مشتركات في القيم والمبادئ والمفاهيم، ولم يكن هذا الخلاف ظاهراً أثناء الصراع مع الأنظمة، ولكن بعد انتصار هذه الثورات خرج هذا الخلاف إلى العلن، بل أصبح صراعاً دامياً سقط فيه آلاف الضحايا.
وكما أخرجت هذه الثورات الخلافات السياسية إلى العلن، فجرت أيضاً كل المكبوتات الاجتماعية والعرقية والجهوية، مما هيأ الظروف لبقايا الأنظمة السابقة وبعض القوى الدولية لممارسة نشاطها وتأثيرها على مجريات المشهد السياسي.
فبدأت بلدان الربيع العربي تواجه أخطاراً كثيرة، ليس أقلها خطر التمزق الجهوى والتشظي الاجتماعي والسياسي، وفي ظل ظروف كهذه ليس من المتصور أن يستطيع الغارقون في هذا المشهد أن يمدوا أبصارهم خارجه، إلا إذا كانوا باحثين عن عون وليس عن التزامات.
لعل ما يلفت في زمن الربيع العربي هو أن الدائرة الأكثر تأثيراً على القضية الفلسطينية هي الدائرة الإسلامية، وإذا كان ثمة ربيع فلسطيني فسيكون على الأغلب إسلامياً أي بما تمثله هذه الدائرة من دول وأحزاب ومنظمات وكتائب ومليشيات على امتداد الدائرتين العربية والإسلامية، وإذا ما حصل ذلك فستكون هي إحدى أكبر المفارقات التاريخية لثورات الربيع العربي.
*
الجزيرة
صالح السنوسي
القضية الفلسطينية في زمن الربيع العربي 1039