انتهى مؤتمر الحوار الوطني بنجاح واضح ومشهد توافقي بامتياز بعد عشرة أشهر من الشد والجذب والمعارك السياسية والتجاذبات الإعلامية والتي لم تكن أمراً مفاجئاً أو طارئاً أو غير متوقع بالنظر إلى طبيعة هذا المؤتمر الذى جمع في ثناياه مختلف الرؤى المتعارضة والغايات المتناقضة والمواقف المتصادمة؛ ففريق لا زال أسيراً لهواجس الماضي وآخر أسيراً لمخاوف المستقبل وثالثاً أسيراً للاثنين معاً هواجس الماضي ومظلوميته ومخاوف المستقبل وضبابيته, لكن فما انتهت إليه الأمور في هذا المؤتمر هو التوافق على وثيقة وطنية حملت في طياتها خارطة طريق لليمن الجديد والاطار العام لدولته الاتحادية المنتظرة التي سيتم الانتقال إليها بعد مرحلة انتقالية ثانية ستوكل إليها مهمة الإعداد والتهيئة لذلك الانتقال.
وقد يكون مثل هذا التوافق على وثيقة مؤتمر الحوار الوطني مدعاة لاستغراب البعض ومثاراً تساؤل من قبل البعض الأخر خصوصا وان الكثير مازال غير مصدق أن من اجتمعوا وهم متفرقون وتعانقوا وهم متكارهون وتناقشوا ونوايا الوقيعة تجتر ضمائرهم؛ أن يصلوا إلى اتفاق حول وثيقة وطنية ترسم ملامح مستقبل اليمن ويصوتون عليها جميعاً بما فيهم أولئك الذين ظلوا في كل مناقشاتهم يحتمون بأحزابهم أو غيرهم ممن كانوا يتحركون تحت لافتة كتبت لهم مسبقاً أو من جاءوا إلى الحوار يتحصنون بالولاء للفئات التي يمثلونها أو القضية التي يحملونها.
ودون الإغراق في البحث عن إجابة لذلك فان مثل هذا التوافق كان حصيلة امرين أساسيين: الأول يعود إلى أبناء الشعب اليمني كافة الذين سجلوا موقفاً مثيراً للإعجاب حينما رهنوا مصيرهم بمصير مؤتمر الحوار الوطني رغم إدراكهم بطبيعة الخلافات والتباينات الشديدة بين القوى والتيارات التي دعيت إلى المشاركة في هذا المؤتمر والتفافهم حول المتحاورين الذين جرى التعامل معهم شعبياً بوصفهم ممثلين لكل أبناء اليمن ومعبرين عن الكيان الوطني شماله وجنوبه شرقه وغربه, أما الأمر الثاني فانه الذى يتعلق بألية المؤتمر التي اعتمدت مبدأ الشفافية والوضوح والصراحة والتفكير والحديث بصوت عالٍ ومرتفع عن القضايا والمشكلات التي تواجه اليمن وتحديداً تلك التي كان مجرد الحديث عنها يمثل تعدياً صارخاً على الثوابت الوطنية مما أتاح للحوار أن يجري في مناخ مفتوح لا تحكمه ضوابط أو مسلمات ولا شك بان هذا المنهاج هو من قرب الجميع من الحلول ووضع أيديهم على المواضع الحساسة المؤدية إلى العلاج.
قلت منذ ما يزيد عن السنة في احدى المقالات: بان المكونات والتيارات المدعوة إلى الحوار مطالبة بالحديث عن أجندتها الحقيقية ومشاريعها المخفية بمنتهى المكاشفة والشجاعة اذا ما كانت مؤمنة بعدالة القضايا التي تدافع عنها وقد عاتبني البعض عندما قلت إن على تيارات الحراك أن تفصح بشكل لا لبس فيه عن قضيتها وهل هي قضية مطلبية أو حقوقية أم أنها التي تتمحور بالرغبة في الانفصال والانسلاخ عن الجمهورية اليمنية؟ وهل من يطالبون بالانفصال يستندون إلى قاعدة شعبية أم انهم من يسعون إلى فرضه على أبناء المحافظات الجنوبية فرضاً في اطار الأيدولوجيات المتصارعة على قيادة الجنوب؟ وهل من يرفعون شعار الانفصال يمتلكون الإجابات على التساؤلات المطروحة عليهم حيال الأسس والقواعد التي ستجعل من الانفصال حلاً وليس مشكلة للجنوب خصوصاً وان هذا الجنوب صار مختلفاً عن جنوب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وأصبح منقسماً عمودياً وأفقياً وطولياً وعرضياً و خاصة وان كل المؤشرات تدل على أن انفصاله عن جغرافية الوطن الأم هو من سيمزقه إلى عدة دويلات ومشيخات وسلطنات ربما تفوق عدد الكنتونات التي كان يتشكل منها قبل استقلاله من الحكم البريطاني عام 1967م؟.
وقلت أيضاً حينها: إن على الحوثيين أيضاً أن يتحدثوا عن قضيتهم بشكل مفتوح وبصوت مرتفع بحيث يعرف الجميع إنْ كانت مطالبهم عادلة ليقفوا معهم حتى يحصلوا على الإنصاف أم أن الأمر يتعلق بطموحهم في أن تكون لهم دولة دينية ونظام إسلامي يقوم على التميز المذهبي باعتبار أن ذلك أسهل لإقناعهم بان إعادة اليمن إلى ما قبل عام 1962م هو ضرب من المستحيل.
وفي هذه النقطة تحديداً, فكما تحدث الجميع بصوت مرتفع داخل مؤتمر الحوار, فإننا بحاجة أيضاً إلى التعاطي مع استحقاقات الغد والفترة الانتقالية الثانية بصوت عال بعيداً عن (الأجندة الخفية) والمواقف المتلونة التي قد تعيدنا إلى نقطة البداية, فنحن أمام لحظة الحقيقة وينبغي أن لا نتجاهل هذه الحقيقة أو نقفز فوقها, فالمرحلة القادمة لا تقتضي فقط أن تتفق القوى الفاعلة في المشهد على مفهوم الشراكة لان أية شراكة في الكون مهما تكن رمزيتها وقدسيتها ابتداء من الأسرة الصغيرة إلى الوطن بمفهومه المعروف يتعين أن تحاط بسياج من الثقة, فاذا لم يتحقق ذلك وحصل العكس تعرضت تلك الشراكة للانتكاس وتحولت إلى معضلة تتلاشى فيها أية قدسية أو التزام تحت مطارق الكيد السياسي وتصفية الحسابات.
وبالتالي فان من الواقعية أن تستقيم استحقاقات الشراكة خلال الفترة الانتقالية الثانية على أسس وملامح جلية يعرفها الشعب الذى لابد وانه سيكون رقيباً على أداء كل طرف ولن يتوانى أو يتردد عن فضح أي متخاذل أو من يحاول التسويف بهدف إحراق المراحل على النحو الذى جرى في المرحلة الانتقالية الأولى والتي تم ترحيل الكثير من مهامها تحت وطأة الجمود الذى ظل يمسك بتلابيب العملية السياسية على حساب إنجاز القضايا الأخرى المتعلقة بمصالح المواطنين وهمومهم والذين وان كانوا ينظرون للرئيس عبدربه منصور هادي كصمام أمان في هذه المرحلة المهمة والحساسة والتي يؤشر عليها المراقبون للأوضاع في اليمن كمرحلة حاسمة, فأما أن تعبر بالبلاد إلى خارطة الدولة الجديدة المتألفة بكل مكوناتها وإما انحرفت عن مسارها بما يعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر وهو ما لا يتمناه احد من أبناء هذا الشعب الصابر والمكافح الذى صار من حقهم أن يطمئنوا على أن أداء الحكومة سواء بقيت في تشكيلها الحالي أو جرى تعديلها سيكون مختلفاً عن الأداء في السنتين الماضيتين التي خلت من أي تفكير بالمشكلات التي تثقل كاهل المواطنين إلى درجة انه وكلما جاء الحديث عن الأسباب الكامنة وراء غياب رجال المرور من شوارع العاصمة وغيرها من المدن وكذا الدوافع التي تعيق منع حمل السلاح في المدن الرئيسية في ظل تصاعد العنف ذكرتهم الحكومة بان البلاد تمر بأزمة طاحنة قد تطيح بكيان الدولة وتمزق المجتمع ومن (الهزل) الحديث عن مفردات كهذه فيما اليمن يسير على كف عفريت.
ومثل هذه المبررات لن تكون مقبولة منذ الغد, فالناس الذين يطحنهم الفقر والانفلات الأمني والفساد والتدهور الاقتصادي والبطالة لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام من لا يكترثون بتضحياتهم وحقهم في الحياة الآمنة والمستقرة, فالصبر له حدود.. مما يعني معه أن فشل الحكومة سيكون وبالاً على الجميع دون استثناء إنْ لم يصبح كارثياً على الحاضر والمستقبل.
علي ناجي الرعوي
لنتحدث عن الغد بصوت مرتفع !! 2012