هل بوسعنا وصف اللحظة التاريخية التي يمر بها البلد وترمز إلى مسيرة شعب بغير اعتبارها لحظة ترقى إلى مستوى الأحداث التاريخية العظيمة..
هل بمقدورنا كذلك المجازفة بالقول إن جدية اللحظة تفرض من الآن فصاعداً، فيما وراء مشاعر الفخر والابتهاج المنتشرة بصورة واسعة، ضرورة التأمل والتوسل بعمق وجدية..
لنقل في البدء، وعلى سبيل التمهيد لمعالجة هذه التساؤلات، إن المنعطف التاريخي الذي نعاين تمخضه وولادته، والذي ليس على الإطلاق ثمرة للصدفة والبخت، يستدعي أكثر من أي وقت مضى استنهاض همم نخبة هذا البلد المُطالَبة بتجاوز ما هو عرضي طارئ إذا أرادت أن تتوفق في ترجمة يقظة شعب لنستحضر بهذا الخصوص الدرس البليغ الذي يقدمه لنا التأريخ بتعبيره عن المعنى الأكثر عمقاً ويحمل بصمة تعدد الثقافات والحضارات الإنسانية والقديمة.
هل نحن بحاجة للتأكيد مجدداً بأن اليمن اليوم لن يتحمل إلى ما لا نهاية أن يظل يعاني الجراح ويتجرع الويلات؟, لِنُذَكِّر أيضا بأن التاريخ لن يُدَوِّنَ في صفحاته أن الانكفاء على الذات دليل جسارة وبسالة ولا أن التبرم عن القيام بالمهام الشاقة التي يقتضيها العمل الرامي إلى تحسين الظروف المعيشية للفئات الأكثر حرمانا علامة على طهارة ثورية.
هل نحن بحاجة إلى التذكير بالوجوه الرمزية الخالدة لكل من المهاتما غاندي، سيمون بوليفار، محمد محمود الزبيري وآخرين، الذين عرفوا كيف يجسدون روح شعوبهم والتعبير عن روح التاريخ العميقة؟ وهل نحن بحاجة أيضا للتذكير ؟
بالأدب الروسي العظيم الذي حمل التوقيع الخالد لدوستويفسكي ، تولستوي وغيرهما من مشاهير الكتاب الروس الذين عرفوا كيف يعبرون بعبقرية كبيرة عن عمق الروح السلافية وكذا عن الوعي الشقي الذي تم رفعه إلى مستوى التمزق الوجودي؛ ألم يعكس في ثناياه التباعد التاريخي للشعب الروسي قياسا إلى متطلبات الأزمنة الحديثة ويرسم طريق الخلاص الواعد بمستقبل أفضل؟
هل نحن بحاجة إلى التذكير أخيرا بأن كبار المثقفين اليمنيين لم يتوقفوا، منذ انطلاق ثورة الفكر والنهضة والحرية إلى يومنا هذا، عن التفكر في أسباب انحطاط قيم البعض والسبل الكفيلة بنبذ كل التعصب والتطرف ، والتي من شأنها أن تضمن له الإنعتاق والحرية وبناء الغد الأفضل ؟
يمنح الاستحقاق الأخير فرصة جديدة لبلد يُصَنِّفُهُ البعض كبلد لم تكن فيه نخبته دوما على موعد مع التاريخ. فالشعب اختار التغيير الكبير في إطار الاستمرارية مُعَبِّراً على هذا النحو عن الميل الفطري العميق .
في الواقع يجسد هذا الميل الفطري ما يصنع خصوصيتنا التي تستند إلى تناغم التنوع والتعايش في إطار التعددية. وقد آن الأوان ليستيقظ البعض من سباته العميق حتى يُسَلِّمَ بأن اليمن لا يرتدي إلا ثوب التعددية وأن الانتماء للوطن والوطنية وتجسيد روحه يتنافران مع الهيمنة على الحقيقة واحتكارها.
لقد حان الوقت أيضا لكي يثبت المثقفون حُسْنَ استعمالهم لما يُعَدُّ أخص خصائص الأزمنة الحديثة وهو الانتقال من حالة القصور إلى حالة الرشد والنضج. وهذا الانتقال يحمل اسم حرية الفكر بما هي إمكانية أولى تفتح أفق الحداثة التي تزدوج بصورة أساسية مع روح التراجيديا.
وفي هذه اللحظة التاريخية الممهورة بانتفاضة الشعب وإختتام مؤتمر الحوار الوطني التي هي بصدد كتابة صفحة جديدة من صفحات التاريخ، فإن السؤال الذي يطرح من الآن فصاعدا، ويستدعي كل من يُفترض فيهم أو فيهن القدرة على استيعاب روح زمانهم يمكن أن يصاغ بشكل يُقصي كل شكل من أشكال اللبس ولا يتحمل الخفة الطائشة ولا المنتهية صلاحيته.
وبالفعل فإن التضحيات الجسام التي قدمها أبناء هذا الشعب في تَصَديها للبربرية الأكثر حقارة لا ينبغي أن تُسْرَقَ لمصلحة أولئك الذين يَعِدون الناس بالجنة على الأرض ويتبجحون بأنهم الممثلون الشرعيون للسماء.
غير خفي أن التراث النبيل للإسلام الذي اغتنى بمساهمة حضارات وثقافات متنوعة وقديمة، لم يتم التعبير عنه بتاتا ككل يخنق التعددية الأكثر تنوعا. فالطابع المتنور للإسلام يشع كمجموعة من النجوم المتحلقة حول الكواكب الأبدية للعقل المستنير والعدالة المشتركة، والجمال الذي رُفع إلى منزلة السمو الإلهي والمحتفى به من قِبَل الإنسان المبدع للحس الجمالي، الشعري، الأدبي، الموسيقي والتصويري.
ومن ناحية أخرى لنا أن نتساءل هنا الآن ما الجواب الذي يكون بمقدورنا صياغته لمواجهة التحديات التي ترتسم في الأفق وتقذف تطلع الشعب إلى مستقبل لا يقبل التسويف أو التأخير إلى آجال غير معروفة ؟ بلا أدنى شك ينبغي أن يُقارِبَ الجواب بصورة واضحة لا لبس فيها .
هكذا نتحدث عن الوطنية والذي لا يحق لنا أبدا تبديدها أو التفريط بها على حساب مستقبل بلد والإطاحة بطموح شعب يتوق إلى غد أفضل.
عبدالله كرش
عن اللحظة التأريخية الفارقة والمستقبل المنشود 1265