أحدثك يا صديقي عن وطن طال غيابه فينا، وعن حياة صارت أمنية لنا أن تكون خالية من الشرور والآثام، وعن بلد أرهقه السير إلى حيث لا يدري وبات يعيش ألم المؤامرات التي تنهال عليه من كل حدب وصوب، وكل يريد أن يمحق وأن يهزم الحرية والجمال حتى بتنا لانعرفنا من كثرة الذي يجيء بإسراف إلينا ألما ومعاناة..
ويا صديقي ـ الذي تعسى ذات زمن أن يكون للوردة فوحها والقصيدة معناها ـ ها نحن على قارعة الحياة لا نلوي على شيء إلا وهو فارغ من معناه.. فالقصيدة التي حدثتنا عنها حبا هي الآن تعيش غربة الحبيب وقد ضاع منها واغتالته يد آثمة وامتدت إليه ـ غدرا ـ لتنال من الحب والجمال وكل ما هو إنساني حتى بتنا لا نرى غير الشائك المعقد اللعين الذي يزحف بقوة إلى مواقع كنا نريدها نسائم حرية وحدائق أنيقة تعبق بالشذى, فإذا بها تتحول إلى نكد يلازم البشر والحجر والشجر وما من معين على الخروج من هذا الهذيان الدموي الذي يسرف في القتل ويترصد نبض وطن ويرهق أجمل ما نريد، بحيث يغدو كل شيء قابل لأن يكون من حزن يلفه حزن.
هكذا يا صديقي صرنا نربض على جمر الألم ونغدو فيه مجرد حالات تعبة كلما قلنا إن شيئاً ما سوف يعيد التوازن للوطن لنرى ما نريد، كلما هبت رياح هوج تعوي على الإنسان, تريده من فوضى وارتباك.. وآه يا صديقي أقولها بتوجع على وطن طال السفر فيه والرحلة لا تريد أن تقف حتى على استراحة، فنشد الرحال إلى مواجع أكثر وإلى إرهاق يزداد وإلى حرية ليست كحريات الآخرين.. إنها من معاناة طالت، وكأن قدرنا أن نظل نبحث عن الذي لا يجيء وكأننا مازلنا في آيات الله علينا (ربنا باعد بين أسفارنا).. فهل هي يا صديقي لازم اليمني هذا التباعد؟ وإلا ما معنى أن يبقى القتل بوابة قهر لنا؟ ما معنى أن يصير القتل ثقافة، والقهر للآخر هو الحضور الذي يتبارى فيه الذين يريدون علوا في الأرض وفسادا؟ ولما هم يريدون لفكرة استحوذت على عقولهم مترجمة على ارض الواقع بالدم؟ يا صديقي وأنت ترى هذا الموت العبثي والحياة المؤلمة بالجند والتناحر يلف أرجاء المكان لم يعد بمقدورنا أن نفر حتى إلى حلمنا، تعبت منا الحكايات, كل يوم شهيد وجنازة وموسيقى حزينة، كل يوم قتيل, كل يوم جريح.
ما الذي يجري في هذه الأرض علينا؟ أليس من حقنا أن نعيش بشراً أسوياء؟ وأن ننتمي للفرح ونغادر الوجع.. أليس من حق الانسان أن يهدأ ولو قليلاً ليلتقط أنفاسه, لكنه الغث الذي يبقى هو الرابض على القلب عند عقول صدئة آمنت بالموت والاغتيالات والارهاب وأخذت تتمادى في تطرفها حتى لم تعد من البشر مطلقاً ولم تعد من أي نوع من الحيوانات وقد ركبتها رغبة التسلط ونست ربا وقيامة وحساباً وعقاباً وتوغلت في الإثم حد الجنون.
ويا صديقي لقد انتظرنا أن نخرج من ربقة الألم والمعاناة وأن نلتفت إلى قلوبنا ومشاعرنا ونفيض حبا على العالم ونزرع البسمة على الشفاه ونتوق إلى غد أفضل.. انتظرنا برغبة الصابر المثابر والراغب أن يكون للوطن قيمته الجمالية، وللحياة انتصاراتها الإنسانية، وللحرية نشيدها الأنيق غير أن الذين لاهم لهم سوى العنف والكراهية لا يكفون عن ملاحقة الجمال إنهم صنو الشيطان الرجيم الذي يتمادى في الباطل.. غير أنا يا صديقي مع كل ذا المرهق نبقى على ظن جميل بقادم ربما يكون لنا فيه شيء من الفرح ونغدو أكثر تفاؤلا مما نحن نعليه، وإن لم يكن لنا هذا الحق فنرجو أن يطاله أبناؤنا كحق إنساني فقده آباؤهم ولا نرجو أن يفقدوه أبداً. لذلك سنبقى على أمل وإن طال، ونبقى على شوق للجمال وإن وجد من يترصد أنفاسه لقنصه.
ويا صديقي المحتفي بالحب من البعيد ليتك تقترب مما نحن عليه لترى كم من الأرامل والأيتام والوجع منتشر كالوباء بفعل الغلاة العتاة القساة, وأصدقك القول أن هذا الوطن لم يعد فيه متسع للفرح إلا ما هو أمنية بعيدة المدى لنبقى أحياء نتحسس ضلوعنا ونفقه معنى الهواء الرطب الذي نتنفسه..
يا صديقي كبرنا وقد ذهب العمر سدى وضاقت سبل الخلاص حتى لا ملجأ من الله إلا اليه, لذلك ليس لنا سوى أن نتعلق بالأماني وأن نوقع على ما نرجوه تعللا.. وأصدقك القول يا صديقي لم يعد في وطني حارة واحدة إلا وهي تئن، ولم يعد فيه بيت إلا ويشكو القهر والغبن وفقدان الثقة بالآتي, فهل نقوى على البقاء هكذا؟ أشك في هذا كثيرا يا صديقي، لذلك علينا أن نتوكأ على أحزاننا ونمضي إلى جهة الله في استقبال القادم ربما يكون خيراً، وربما ونحن نحسن الظن بالله نقدر أن نخرج من ربقة الألم والمعاناة وحصار الوطن ودهاقنة السياسة وجلاوزة القمع, من ألفوا أن يبقوا نكدا ولا يريدون أن يتزحزحوا من هكذا عادة دأبوا عليها.
صديقي الذي يرتاد عالمه من بعيد ربما لوكنت بيننا وأنت مرهف المشاعر وأنيق الحرف لغمرك من الحزن مالا تقدر على حمله، فاحمد الله أنك هناك بعيداً تقرأ رسائلي إليك وتدعو لنا بالفرج القريب لنخلص من ضمير ميت وفكرة مجنونة وعقلية استحواذيه ونفسية مريضة لا تنتج غير الإثم ولا تفعل غير الشر، ولعلنا يا صديقي ونحن نثق بالله, نحتفي معا ذات يوم بنصر تكون فيه القصيدة نديمنا الجميل، والزهرة بستان الفرح ربما يا صديقي.. ربما.. ليس على الله بمستبعد.
محمد علي اللوزي
ليس على الله بمستبعد 1658