انتابني شعور عميق بالخجل حين طالعت صورة كبيرة لمجموعة من الناشطين البريطانيين الذين حمل كل واحد منهم لافتة تدعو إلى وقف مخطط برافر الذي يستهدف اقتلاع بدو النقب وتهجيرهم من أرض أجدادهم.. ولم يفارقني الخجل وأنا أتابع التقرير الذى نشرته صحيفة «الحياة» اللندنية يوم الأحد الماضي (الأول من ديسمبر) عن تفاصيل حملة التضامن مع فلسطين في بريطانيا، وكيف أن العشرات من الإنجليز تظاهروا أمام السفارة الإسرائيلية في لندن.. كما خرجت تظاهرات أخرى في مدن أكسفورد وبرايتون ولامبيت وكارديف، رفع خلالها المتظاهرون اللافتات ذاتها التي كتب عليها «يوم الغضب ــ برافر لن يمر»، ورددوا شعارات ضد المخطط, داعين إلى وقفه.
في التقرير أيضاً أن أكثر من 50 من الشخصيات البريطانية البارزة وقعوا رسالة أدانت مخطط التهجير المذكور.. ومن بين الموقعين أكاديميون وروائيون ومخرجون وموسيقيون ونواب ومؤلفتان ومصممة أزياء وإذاعية وقادة اتحادات عمالية، وذكرت الرسالة التي صدرت عن حملة التضامن مع فلسطين ووقعها ذلك الخليط المدهش من البشر أن البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) أقر مخطط برافر ــ بيجين الذي سيؤدي تنفيذه إلى تدمير أكثر من 35 قرية وبلدة في النقب (جنوب إسرائيل)، واقتلاع وفصل نحو 70 ألف بدوى فلسطيني، الأمر الذي يعد تهجيراً قسرياً لفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم تصر الحكومة الإسرائيلية على المضي في تنفيذه رغم ما يمثله ذلك من انتهاك صارخ لأبسط حقوق الإنسان.. ودعا البيان أيضاً حكومة المملكة المتحدة إلى الضغط على إسرائيل بمختلف السبل للتخلي عن المخطط، كما دعا حكومات العالم إلى اتخاذ موقف مماثل يلزم حكومة تل أبيب باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي.
نقل التقرير عن رئيس حملة التضامن مع فلسطين في بريطانيا ــ اسمه هيولانينج ــ قوله على الموقع الإلكتروني للحملة بأن الحكومة البريطانية مطالبة بالتخلي عن حذرها في مخاطبة حكومة إسرائيل، في حين أن المطلوب منها سياسياً وأخلاقياً أن تتبنى موقفاً حازماً في مواجهة سياستها الاستيطانية، من ثم فلا ينبغي أن يكتفى الموقف البريطاني بالإدانة أو التحذير، وإنما يتعين أيضاً أن تتخذ الحكومة خطوات عملية تؤكد جديتها في رفض تلك السياسة العنصرية، كأن تفرض حظراً على تجارة السلاح مع إسرائيل.
هذا الموقف يفاجئنا بقدر ما أنه يخجلنا.. ووجه المفاجأة في الموضوع لا يتمثل فقط في كون الحملة يقودها فريق من النخبة البريطانية، ولكنه يتمثل أيضاً في أن الموضوع برمته ليس مثاراً في الإعلام المصري, ذلك أنني أزعم بأن الرأي العام في بلادنا لا يعرف شيئاً عن خطة التهجير المذكورة، رغم الأهمية الاستراتيجية للنقب للأمن القومي ففي مصر، باعتبارها لصيقة بشبه جزيرة سيناء.
وللعلم فإن مخطط برافر هو قانون إسرائيلي تم إقراره في شهر يونيو من العام الحالي، بناء على توصية من وزير التخطيط الإسرائيلي إيهود برافر عام 2011.. وقد شكلت لجنة حملت اسمه لكي تتولى تهجير سكان عشرات القرى في النقب، وتجميعهم فيما سمى بلديات التركيز.. وتدعى الحكومة الإسرائيلية أن هدف المخطط هو تسوية النزاع المتواصل بين بدو النقب والسلطة الإسرائيلية في شأن ملكية الأراضي بالمنطقة، بما يسمح بالتخطيط لمستقبل قرى البدو ومضاربهم.. إلا أن البدو يؤكدون أن الهدف الحقيقي هو نهب ما تبقى من حوزتهم من أراضٍ، حيث يؤدي القانون إلى مصادرة نحو 800 ألف دونم تعادل نصف الأراضي التي تبقت لهم بعد المصادرات التي تمت عام النكبة (سنة 1948) ــ (الفدان يعادل أكثر قليلا من أربعة دونمات) ويقضي المخطط بتخصيص منطقة ينقل إليها البدو بما يعيد إلى الأذهان فكرة «الجيتو» وخبرة نظام الآبار تايد البائد في جنوب أفريقيا، الذى حدد أماكن منفصلة لكى يعيش فيها السود من أصحاب البلاد، كي يظلوا بمعزل عن البيض الوافدين إليها، وفى الحالة التي نحن بصددها فالمراد هو عزل البدو واقتلاعهم لصالح مخططات التغول الاستيطاني.
أن يعرف البريطانيون عن الموضوع أكثر مما نعرف فذلك سبب كاف لشعورنا بالخجل والخزي.. وأن يتحرك بعضهم وينظمون حملة لوقف هدم القرى وتهجير عشرات الألوف من البدو بينما نحن صامتون وذاهلون، فذلك سبب آخر للخجل.. وأن تطالب حملة المثقفين الإنجليز حكومة بلادهم باتخاذ موقف حازم إزاء إسرائيل ووقف بيع السلاح لها, في حين أن حكومتنا تقف متفرجة وتنهمك في هدم الأنفاق لإحكام الحصار حول فلسطينيي غزة، فذلك سبب ثالث للخجل.
لا أعرف إلى من نتوجه باللوم والعتاب, إلى حكومتنا المتفرجة على المشهد، وباتت تظن عليه حتى بالشجب والاستنكار؟, أم إلى وسائل الإعلام التي انخرطت في الاستقطاب السياسي والصراع الداخلي الدائر إلى حد أنساها مسئوليتها المهنية في الأخبار وتنوير الرأي العام؟, أم إلى النخبة التي تخلت عن دورها في التعبير عن ضمير الأمة وتحولت إلى طرف في الحرب الأهلية الدائرة؟.. وإلى أن نعرف فإننا لا نستطيع أن نتخلص من الشعور بالخجل والخزي.
فهمي هويدي
البريطانيون أخجلونا 1260