إن ثورات الربيع العربي، لابد أن تستكمل فعلها من أجل القضاء على الثقافة البدئية، تلك الثقافة التي لا تعترف بالعمل الجماعي والتي انتشرت في مجتمعات كثيرة، نظراً لسيطرة فرد أو عصابة على مقاليد الأمور، فالفرد أصبح مجرد أداة انتخابية إما لصالح الفئة المسيطرة أو لصالح الفئة المنافسة أو الحزب المنافس صورياً، وهكذا فقد الفرد وفقدت الأسرة أي أمل في العمل الجماعي، ووفقاً لذلك، ونظراً لليأس المسيطر على أفراد المجتمع وخيبة أملهم في تغيير الواقع المعاش، أصبحت كل أسرة تربى أفرادها على الثقافة البدئية، أي التفكير في الذات، فالعامل الغير متعلم يفكر في ذاته فقط ويستخدم قواه العضلية في العمل من أجل جمع المال وتكوين أسرة، أما الفرد الذي نال حظاً من التعليم فيستخدم شهادته أيضاً من أجل المضي في طريق لا تختلف كثيراً عن طريق العامل.
إن الثقافة البدئية تعد ثقافة صادمة هادمة، وهي ضد الحرية والتحرر، وهي ثقافة صنعها الحكام المتسلطون ليجعلوا من أفراد المجتمع مجرد أدوات انتخابية ورعاع ومستأجرين، لذا فقد مارس هؤلاء الحكام بطشهم وظلمهم وقهروا أفراد المجتمع حتى لا يفكروا إلا بقوت يومهم وباحتياجاتهم واحتياجات أسرهم، وهكذا أصبح كل فرد معزولاً عن الآخر لا يمارس إلا ثقافة بدئية تجعله لا يقوى على رفع رأسه أو التفكير بالتحرر والانعتاق.
إن الفرد المترع بالثقافة البدئية، ليس مالكاً لنفسه ولا لأسرته، لذا فهو لا يؤمن بمقولة (الشعب مالك للسلطة ومصدرها)، وهذاه معضلة وخيمة لا تعيق الثورات فقط، بل تقفل كل السبل أمام هذه الثورات.
ومما سبق يتضح بأن الثورة عمل جماعي، وهذا العمل يتطلب ثقافة غير الثقافة البدئية، بمعنى أن ثورات الربيع العربي، قامت عندما فكر أفراد المجتمع بشكل جماعي ونظروا إلى المصالح والهموم على أنها مشتركة.
إذاً بدء الفعل الثوري يكون عند النقطة التي يتحرر فيها الفرد من ثقافة البدئية، لكن كيف يتحرر الفرد من ثقافة البدئية؟!، قد يكون الظلم المشترك هو العامل الذي يجعل الأفراد يجتمعون ويقودون ثورة ضد هذا الظلم، وقد تكون هناك ثقافة ثورية تتغلغل داخل المجتمع لتنتشل أبناءه من عفونة الثقافة البدئية، ولهذا فإن أي ثورة لن يكتب لها النجاح إلا إذا تخلصت من هذه الثقافة، وأصبحت قادرة على خلق ثقافة بديلة تجمع هموم الناس وتوحد خط سيرهم الثوري، وهنا يأتي دور النخبة المثقفة، لكن ليست المكبلة بقيود الثقافة البدئية، فالثقافة البدئية لا تصيب الأفراد العاديين فقط بل قد تصيب وبشدة النخبة المثقفة، أي تنتشر من القاعدة إلى قمة الهرم الثقافي، بل وقد تفرز القمة سموم هذه الثقافة أكثر مما تفرزه القاعدة، نظراً لتأثيرات القمة أو النخبة المثقفة على بقية أفراد المجتمع لأن صوتها مسموع ولها كل التبجيل والاحترام، فالنخبة المثقفة القادرة على إحداث فعل ثوري تحرري هي النخبة المتحررة أصلاً من الثقافة البدئية الهادمة.
إن ثورة (الخيم) كما يسميها البعض، تعد إنموذجاً رائعاً لتصالب والتقاء المصالح والهموم والأهداف والغايات، فالأفراد الذين كانوا يفكرون في ثقافة بدئية ويسعون بتحصيل أرزاقهم كل بمفرده، أصبحوا اليوم يلتقون داخل هذه الخيم ويخرجون في مسيرات مشتركة، ويهتفون هتافات مشتركة، بمعنى أنهم تخلصوا من الثقافة البدئية فكان الفعل الثوري.
لكن هل ستعود هذه الثقافة العفنة بعد ثورات الربيع العربي؟!، لن تعود أن كان هناك فعل ثوري مستمر ولا أعني بالفعل الثوري (فعل الخيم والاعتصامات والمسيرات) وإنما فعل الفكر والمعرفة والتثقيف، ذلك الفعل الذي يجب أن يتبناه المثقفون والمبدعون ولا بد أن يضعوا تصورات ثورية نهضوية ترتقي بالفكر وتبعد الإنسان عن الثقافة البدئية الهدامة.
د. شبيب غيلان المعمري
الثقاقة البدئية... 1536