التخصص في شيء هو قرين الإبداع، بيد أنه أحيانا يكون عين البدعة والابتداع، فالله -جل في علاه- خلق الإنسانية "مسلمة" وهي بذلك الإسلام مطلوب منها أن تكون أمة وسطا "كل مولود يولد على الفطرة فيأتي أبواه فيهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" والله خلق الإنسانية مزودة ومميزة بأدوات الإدراك والعلم (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ثم زودها بأدوات العلم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). ثم أسندت المسؤولية للإنسانية بأنها مسئولة على تفعيل تلك الأدوات أو ذلك الثلاثي المرتب بهذا الترتيب نفسه في جميع القرآن، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فمفردة "كل أولئك" تعني المسئولية الكاملة تجاه /السمع والبصر والفؤاد/ والإنسانية المسلمة -التي سلِمت من التهويد والتنصير والتنجيس- انقسم أغلبها تجاه ذلك الثلاثي السابق إلى فريقين أو تطرفين أو تخصصين : تخصص "عقل محض" وتخصص "قلب محض".
والإنسانية المسلمة السوية في هذه النقطة ينبغي أن تكون تكاملية شاملة أي مسئولة عن إعمال الثلاثي في التفكير واتخاذ القرار. وعليه يمكن إعادة التقسيم الثنائي السابق إلى ثلاثة أقسام: قسم وسطي مرن، وقسمينِ آخرين متطرفين : (متطرف يساري ومتطرف يميني)؛ وبعبارة أخرى: وسط وأقصى الشمال وأقصى اليمين، وخير الأمور -من مقصد قرآني- أوساطها (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، إذا فالقليل من الأمة هو الذي مثَّل الوسطية فيها (وقليل من عبادي الشكور). والأغلب مثَّل التطرف (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك). فالمتطرف الأول اليساري وقف عند حدود العقل (السمع والبصر) معطلا الفؤاد (القلب) الذي هو الطريق المعبد لبلوغ الحكمة إذا ما فُعِّل مع العقل، لكن عند هذا النوع من التطرف قد اختزلت وظيفة القلب ليقتصر دوره على الآلية "مضخة دم"وخالٍ من الفؤاد "مضخة القيم" وهذا المتطرف الأول الذي يعبد الله على حرف هو العلماني صاحب النفاق (إن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) إن حدي حرفي لا يمتلك ذرة ثبات أو مرونة .. وهو أيضا علماني يتناقض ابتداء مع علمانيته نفسها؛ لتجده يقدس العقل متناسيا صانع العقل أو خالقه فيصر على قيادة عقل الإنسانية, معتمدا على العقل تاركا النقل، وحينها تعجب -كل العجب- من العقلية التي تقدس نفسها وتنكر خالقها. أما المتطرف الثاني هو الذي اختزل الثلاثي السابق "بالفؤاد" أو العاطفة لتجده يقف عند قشور النقل وسطحه، فالأول أنكر النقل فنعوذ بالله من شروره ! والآخر وقف عند قشوره فنعوذ بالله من قصوره ! فكلاهما عسر على الأمة وكلاهما غمة ! إن المتطرف اليميني لا يرى في الإسلام "منهج حياة" بل إن قصوره اختزله في الدروشة، وبهذا لبّ الثاني دعوة المتطرف العلماني عندما أقتنع الدرويش -مصدقا كذبة العلماني- من أن السياسة نجاسة والإسلام قداسة وعليه ينبغي أن نحجر تلك القداسة بين جدران المساجد ولا نسمح للقداسة بالاقتراب من (السياسة/النجاسة) ليبقى مصير الأمة المسلمة حكرا على العملاء ونستبعد منه العلماء حتى لا تصيب ذلك الدرويش الساذج نجاسة العلماني المنافق فروج العالم المتآمر -أنظمةً- المقولة القائلة: (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) لتضل نكسة الأمة عاكفة بين تخصصين أو متطرفين أحدهما وقف عند حدود العقل والآخر جعل أقفالا على قلبه وفصله عن وعيه ليصبح عاجزا عن تدبر القرآن، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) والعلماني الذي ينكر القرآن كيف له أن يتدبره وكأن عجز التدبر قصد به قصور وسطحية ذلك الدرويش، وهذا الأخير وهو من الأمة تأتي الأمة من قبله ويشكل العسر للأمة، في حين أن الوسطي يؤمن بقول سيد الوسطية ورسولها: "لن يغلب عسر يسرين" فالعاطفة المفصولة عن السمع والبصر هي "العسر بعينه"؛ وعندما تواجه العاطفة أو تتفاوض مع عقلين فإنه يمكن القول إن مع العاطفة سمعا وإن مع العاطفة بصرا وإن مع اعسر يسرين، وإن مع العاطفة عقلين!! إن تفعيل العقل والعاطفة يمثل تلك الوسطية والمرونة الثابتة التي تكون قادرة على أن تمتص صدمات "المتطرفينِ الإثنيين" . إنها وسطية أو مرونة أدركت مسئوليتها تماما تجاه ذلك الثلاثي الرائع وأعملته جميعه إنها مرونة تعمل بعقلين (السمع والبصر) وعاطفة (الفؤاد) أي أنها لا تبني قراراتها معتمدة على المنطقية العقلية المحضة ولا تبني تلك القرارات أيضا معتمدة على العاطفية القلبية المحضة بل هي تقوم ويقوى سوقها ويزداد ثباتها من المزيجين معا (العقل والعاطفة). وعليه فقد فهم الوسطي الإسلام فهما وسطيا لا عوجا فيه ولا أمتا؛ لقد فهمه "الإسلام المقنع" على أنه السياسة المقنعة نفسها فهو دين الحرية ودين لهذا هو دين الحجة والإقناع -لا دين الإخضاع كما هي عليه سياسة العلمانيين التي كفرت بصناديق الديمقراطية وآمنت بصناديق الذخيرة، ودين التشريع والحاكمية ودين الصلاة إنه دين الشعيرة والشريعة والحاكمية. إن أقرب الحركات الإسلامية إلى هذا الفهم الشمولي القويم والمستنير للإسلام هي حركة الإخوان المسلمين، لهذا يشن عليها العالم المتآمر الغربي المسيحي والعربي العلماني والفارسي المجوسي واليهودي الصهيوني - على مستوى الأنظمة- حربا شعواء بعد أن ألصقوا بها كل تهم الإرهاب حتى يجعلوها في كل حين عرضة للانقلاب والاغتصاب! وما حصل لثورات الربيع العربي في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا هو انقلاب واضح وإن تنوعت وسائله بين (المؤامرات والمبادرات) وبين (الذئاب والرعاة) وفي أثناء هذه الإنقلابات و التآمرات تجد الأمة الإسلامية انتكاستها متمثلة في ذلكما المتطرفين العلماني المنافق -كطرف في المؤامرة- والدرويش الساذج القاصر عن إدراك حقيقة الإسلام ليختزل الإسلام في الثوب الأبيض القصير والغَمامة - عفوا- العمامة البيضاء فوق رأسه التي حجبت أو حجرت عقله عن أن يرى سعة الإسلام الرحبة ليبدو هذا الدرويش وأمثاله في صورة "الكيس الممتلئ بياضاً (كيس القطن) وكان مطلوب منه أن يكون (الكيِّس الفطِن!!..
د.حسن شمسان
انتكاسةُ الأمَّةِ .. بين مُتَطرِّفينِ (!) 1453