كلما تمدد حوار "الموفمبيك" كلما ازداد الحوار فشلاً، وكلما تأكدت لنا أكذوبته، وكلما ازدادت المخاوف من مخرجاته على مستقبل الوحدة، خاصة وأن المؤشرات الأولية لنتائجه لا تنبئ بخير، فهناك توجه نحو الانفصال التدريجي عبر مسميات وصيغ مختلفة لشكل النظام السياسي للدولة الذي يتوقع تمريره بدفع كبير من قوى خارجية إقليمية ودولية، وتجاوب من قوى داخلية تعتقد -خطأَ- أن مصلحتها لا تكمن في الوحدة وإنما في تقسيم اليمن وتشظيها إلى أقاليم ومشيخات وسلطنات ودويلات صغيرة متناحرة، وهو ما سيعود باليمن إلى الوراء مسافات زمنية طويلة.
يهرفون بما لا يعرفون:
والغريب أن كثيرين يتبارون في الحديث عن الفيدرالية بكونها المخرج والمنقذ للمشكلة اليمنية، وبكونها ستقود اليمن إلى بر الأمان، وبها فقط سيتجنب اليمنيون ويلات الانفصال ودعوات فك الارتباط.. إلى آخر ما يروجونه من معزوفات مضللة وافتراءات ما انزل الله بها من سلطان، ولا علاقة لها بالمصلحة الوطنية لا من قريب ولا من بعيد.
وفي مؤتمر الحوار الذي سيمرر المخطط، يكتفى أغلب المتحاورين بـ"المصروف اليومي- مائتي دولار"، بينما أصحاب مشروع تفكيك الدولة يذهبون إلى تسويق الكثير من المبررات، وهم يعرفون ما يقولون، ولهم في ذلك مآربهم وأهدافهم الخاصة، أما البعض الآخر فهم المتسوقون من هواة السياسة والمشتغلون بها في زحمة الانفلات والفوضى والضياع، وهؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، وهم يسوقون لأنفسهم "جهالة" من خلال الحديث عن جنة الفيدرالية ونعيمها، لمجرد أنهم سمعوا أن فيها الحل، والكثير من وسائل الإعلام تنجر وراء هذا المشروع الوهم في غياب وجود أي رؤية إعلامية وطنية حتى لدى الإعلام الرسمي، الذي أصبح - للأسف- بلا هوية، ومهمته أضحت محصورة في ترديد ما يُقال، قالوا فيدرالية، قالنا بعدهم "فيدرالية"!!.
من خطر إلى خطر:
المشكلة أن المروجين والمسوقين لقصة " الفيدرالية " يقارنون اليمن بـ"سويسرا"، ولا يريدون قراءة الواقع اليمني ومتناقضاته، كما لا يريدون فهم خصائص الأنظمة الفيدرالية، وفوارق بيئات تطبيقاتها!..
فالأنظمة الفيدرالية تقوم عادة في البلدان التي توجد بها دول مركزية قوية، تتمتع مؤسساتها الدفاعية والأمنية بكفاءة عالية في حماية مواطنيها وأمنها القومي، ويتمتع أبناؤها بوعي كاف بالحقوق السياسية والمدنية، وهو ما يمكن القياس عليه في ألمانيا وروسيا (مثلا)، أما في بلادنا فالوضع يختلف تماماً، فالدولة تكاد تكون غير موجودة، وبالتالي فأجهزتها القائمة غير مؤهلة للقيام بمهامها، وغير قادرة على حماية مواطنيها فضلا عن حماية الأمن القومي والسيادة الوطنية، علاوة على أن نسبة الأمية في البلاد تزيد على 70%، وأكثر من 13 مليون من المواطنين مشغولين بالبحث عن لقمة العيش، وبحاجة إلى مساعدات إنسانية، كما صرح بذلك الممثل الأممي في الحوار جمال بن عمر، ما يعني أن الحديث عن الفيدرالية هو مجرد عبث وخلط للأوراق في ظل هذه الأوضاع المزرية.
ومن هنا، فنحن نعتقد أن الفيدرالية ليست هروبا من خطر الانفصال ، بل هي هروب من خطر أصغر إلى خطر أكبر، فخطر ضعف إدارة الدولة في ظل الوحدة لا يمكن معالجته بالهروب من "التوحد" إلى التجزئة وتقسيم البلاد بالفيدرالية إلى إقليمين أو عدة أقاليم، فذلك هو الخطر الأكبر الذي سيقود إلى المطالبة باستفتاءات تقرير المصير لكل إقليم على حدة، ولا استبعد في ظل تمرير صيغة النظام الفيدرالي- الذي روج له مؤتمر الحوار منذ أكثر من سبعة اشهر- أن يأتي الوقت الذي تطالب فيه الأقاليم بالاستفتاء على الانفصال، فإقليم "حضرموت والمهرة" (مثلا) عانى كثيراً من دولة المركز في عدن في ظل حكم الحزب الاشتراكي، وبالتالي سيكون من حق الحضارمة والمهريين والشبوانيين المطالبة بتقرير المصير، وسيكون الحال نفسه بالنسبة لأقاليم تهامة والمنطقة الغربية، والوسطى، وصعدة، التي عانت هي الأخرى من حكم المركز في صنعاء.. وهكذا.. إلى جانب ما سيلحق هذا التفتت من تأجيج وإثارة للنزعات المذهبية والقبلية والطائفية والجهوية التي ستلعب هي الأخرى دوراً في تغذية الصراعات وتوسيع رقعة التقسيم.
الوضع الأنسب للوحدة:
عندما نقول إن الوحدة هي في وجدان وضمير كل اليمنيين، لا نزايد ولا نتغنى ونهيم ونقول كلاماً رومانسياً عن الوحدة، وإنما هي الحقيقة التي يعيشها اليمنيون برغم الحملة الدعائية المضللة التي تشهدها المرحلة الحالية ضد الوحدة، وعلى أيدي عناصر وأدوات وأجهزة قاطعت المشروع الوطني وارتهنت لمشاريع صغيرة لا علاقة لها بمصلحة المواطن اليمني لا في الشمال ولا في الجنوب، فمصلحة الشعب في الجنوب والشمال والشرق والغرب هي في الوحدة، وبالتأكيد بصيغتها البسيطة "الاندماجية" القائمة، لأن المشكلة ليست في الوحدة نفسها وإنما هي في أسلوب إدارتها.
ومن هنا، فاللامركزية المالية والإدارية هي الحل للقضية الجنوبية وللقضية اليمنية عموماً، لأن المشكلة التي ولدت كل هذه المشاكل هي في سيطرة المركز على السلطات المحلية، وإخضاعها لتوجيهاتها في كل صغيرة وكبيرة.. الأمر الذي تراكمت معه المشاكل، وأغفلت معه الأنظمة والقوانين، فوجد تنازع على السلطة بين مسئولي المركز والفروع، وولدت حالة من الفوضى والفساد في ظل غياب مرجعية قانونية ملزمة.
وإذن، فالحل يمكن في منح صلاحيات الأقاليم- الذي يراد تمريره عبر النظام الفيدرالي- للسلطة المحلية في كل محافظة على حدة، بحيث ينشأ حكم محلي كامل الصلاحيات، يخضع لرقابة وضبطية قضائية محلية لا يتدخل فيها المركز إلا في حالة التجاوزات التي تهدد الأمن والسكينة العامة، وتهدد بنسف النظام والقانون ووفقاً لنظام دقيق يحدد العلاقة بين السلطتين، المركزية والمحلية.
القضية الجنوبية:
أما القضية الجنوبية في جوهرها فهي جزء من القضية الوطنية اليمنية، وهي قضية مطلبيه حقوقية وليست سياسية، نتجت عن معاناة مشتركة بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال بسبب سوء إدارة الدولة، لكن الجديد هو أن القضية الجنوبية اكتنفها شيء من التهويل وطغت عليها المزايدات السياسية، فظهرت معها بعض الحقائق والأرقام المزيفة والمبالغ فيها، كالمبالغة في قضية تهميش وإقصاء وطرد الجنوبيين من السلطة السياسية والوظائف العامة، ونهب أراضي وثروات الجنوب لصالح "الشماليين"، وغيرها من القضايا والقصص التي كان ولا يزال مردها جميعا هو الفساد السياسي والإداري، الذي مارسته واستفادت منه واشتركت فيه على حد سواء قوى شمالية وجنوبية فاسدة لا تزال تمارسه حتى اليوم وبصور بشعة وأكثر سوءاً مما كان عليه.
لقد طال تزييف الوعي تجاه القضية الجنوبية إيمان أبناء الجنوب بقضية الوحدة والتشكيك فيه، وهم الذين ناضلوا وسعوا من أجل تحقيقها، وأدركوا خيرها فعلاً، وإذا انكر البعض من الساسة هذه الحقيقة فالواقع يكذبهم، والجنوبيون متمسكون بالوحدة لأنهم بدونها سيتقاتلون أو يحكمون بالنار.
وهنا، نعود ونقول إنها حدثت تجاوزات كبيرة بعد حرب صيف 94م، ودمرت المؤسسات العامة في الجنوب بدون مبرر، وكان ذلك فعلاً على حساب الآلاف من أبناء الجنوب عسكريين ومدنيين، غير أن كلما حدث كان على أيدي الفاسدين شماليين وجنوبيين، ولم تكن تأثيراته وانعكاساته على الجنوب فقط وإنما كانت على الوطن كله.. ولكن الحقيقة المرة التي لا يريد أن يفهمها الحاقدون على الوحدة أن هذه الإشكالية ليست بفعل " الوحدة " وإنما هي بفعل إدارتها الخاطئة التي ولدت حالة من الشعور بالغمط لدى قطاع واسع من أبناء الجنوب.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
لماذا لا تحل هذه المشاكل خلال العامين الماضين، ولم يتم معالجتها رغم أن نصف الحكومة ورئيسها من الجنوب، والوزارات السيادية والأجهزة الاستخباراتية بأيد جنوبية، ورئيس الدولة من الجنوب؟, لماذا لا يصلحون إدارة الشأن العام ويجبرون الضرر، في الجنوب وفي الشمال وقد أصبحت الدولة والسلطة والثروة في أيديهم؟.. فهناك مزايدات باسم القضية الجنوبية بلغت حدوداً غير مقبولة، وأصبح الهدف منها الابتزاز فقط وليس إصلاح الشأن العام في الجنوب، كما أصبح الهدف منها هو استهداف الوحدة لذاتها، وليس لموضوعها.
*رئيس مركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية
د.عبدالوهاب الروحاني
الفيدرالية التي لا نريد!! 1538