لم يكن اندلاع الصراع المسلح في محافظة صعدة اليمنية الأسبوع الماضي بين مسلحي أنصار الله (الحوثيين) وعناصر الجماعة السلفية المتمركزين في منطقة دماج مفاجئاً للكثيرين إذ انه ومنذ تقلص سيطرة الحكومة على محافظة صعدة الشمالية – والتي كانت رمزية بالأصل- وقيام الحوثيون باستغلال ذلك الفراغ بفرض نفوذهم على أجزاء واسعة من هذه المحافظة لم تتوقف المناوشات بين الطرفين والتي غالباً ما كان يجري احتواؤها عن طريق الوساطات القبلية وتدخل بعض الوجاهات المسنودة من قبل الدولة غير أن ما تميزت به المواجهات الأخيرة بين الجانبين من تطور نوعي وكمي وعنف غير مسبوق وضحايا واصطفاف مذهبي وطائفي واحتشاد قبلي وانقسامات حادة في البنية الاجتماعية قد أثار مخاوف معظم اليمنيين من ازدياد وتفاقم مثل هذا الاصطفاف الذي قد يؤدي إلى تعميق روح الانقسام والانزلاق باليمن في مهاوي فتنة مذهبية وصراع لا تضبطه أية قواعد.
وتحت ضغط تلك المخاوف فقد تصاعدت الأصوات المحذرة من تأجيج الخلاف والتباين بين المذاهب والاجتهادات الفكرية واستثمار الاقتتال والمواجهات التي تشهدها محافظة صعدة بين جماعة الحوثيين القريبة أيديولوجيا من طهران وحزب الله اللبناني والجماعة السلفية المدعومة من بعض القبائل اليمنية والأطراف السنية في تهيئة الساحة اليمنية لصراع عبثي يتغذى من خلفيات دينية أو مذهبية لا يرغب احد في خوضه أو مشاهدة تداعياته أو حتى التفكير في خطورة نتائجه خصوصاً في بلد يتكدس فيه السلاح بما يفوق عدد سكانه, ناهيك عن أوضاعه القاسية وما يعانيه من فقر مدقع وبطالة عالية وتحديات مزمنة ومتوارثة وأخطار تتهدد امنه واستقراره ووحدته.
وفي استعراض خاطف للتطورات التي شهدها اليمن خلال الأسابيع القليلة الماضية يتضح أن الرئيس عبد ربه منصور هادي قد انهالت عليه مجموعة من الأخبار السيئة دفعة واحدة شكلت جميعها اختباراً مهماً لمدى قدرة الرجل على تحمل ضغوط الأحداث ومقدار استعداده للتعاطي معها خصوصاً وهو من يرى البلد الذي يتولى قيادته منذ انتقال السلطة إليه من سلفه الرئيس السابق علي عبدالله صالح في 21 فبراير عام 2012م يمر الآن بأشد أزماته بل إن شئت فقل أخطرها على الإطلاق, فهناك فتنة مذهبية في صعدة وفتنة طائفية في تعز ومظاهر عنف تستهدف أبناء الشمال في المحافظات الجنوبية وهناك انسداد في عملية الحوار وخلافات حادة بين المكونات المشاركة في هذا الحوار حول العديد من القضايا الجوهرية والى جانب كل ذلك هناك عدة ملفات يتعين على الرئيس هادي حسمها بعيداً عن مراعاة توازنات كثيرة وعينه على الداخل وليس على الخارج.
لا احد بوسعه أن يزعم تحديداً معرفته إلى أين ستسير الأمور في اليمن, لكن الكل تقريباً قلق من بوادر الفتنة في صعدة والتي قد تؤدي إلى ارتفاع حدة الاحتقان المذهبي وتصاعد وتيرته ونبرات صوته بسبب التشنج الواضح والخطير الذي يمارسه البعض من خلال التصريحات والمقالات الصحفية والمواقف التي تصدر كل يوم من كلا الفريقين بما يزيد الأمور تعقيداً وصعوبة وخطورة ويدفع بالحلول إلى طرق مسدودة..
والغريب في الأمر أن جماعة الحوثيين التي كانت حتى الأمس القريب تشكو من الإقصاء والتهميش للفكر الذي تؤمن به هي من ترفض اليوم القبول بالفكر السلفي وتسعى إلى اجتثاث من يعتنق هذا الفكر بعد أن توحشت هذه الجماعة وخرجت من الحروب الستة التي خاضتها ضد القوات الحكومية في عهد الرئيس السابق دون هزيمتها؛ إذ انه وبدلاً من أن تعمل هذه الجماعة على إعادة تطبيع الأوضاع في صعدة على أساس الأخوة في الدين والوطن, اتجهت إلى توسيع رقعتها وتسليح كوادرها وفرض إرادتها ومفاهيمها على الأخر المختلف والمخالف على الرغم من كل ما في محافظة صعدة من غنى وتنوع في الأفكار والاجتهادات والتوجهات والمنطلقات.
ولا بد من تذكير هذه الجماعة وغيرها بأن اليمن الذي تعايش فيه المذهبان الزيدي والشافعي لمئات السنين هو من ظل يبني هذا التعايش بين نسيجه المترابط على قاعدة الفكر الوسطي البعيد عن الغلو والتعصب, فلم يكن المذهب الزيدي يوماً معادياً للمذهب الشافعي ولم يكن المذهب الشافعي في أي مرحلة من المراحل خصماً أو في تضاد مع الزيدية واذا ما وجد هناك أي خلاف فلم يكن هذا الخلاف حول مبادئ وثوابت الدين بل انه خلاف حول بعض الاجتهادات الفكرية المتصلة بالفروع ولذلك فقد كان ذلك الخلاف رحيماً بالعباد ومصدراً من مصادر الخير والتيسير للناس وباعثاً على لمّ الشمل وتعزيز وحدة المجتمع.
فما الذي تغير اليوم حتى نرى حرباً تستعر في محافظة من محافظات اليمن لدواع مذهبية؟, أليس الكثير من السلفيين وأبناء المذهب السني الذين يحضرون إلى الصلاة هم من لا يجدون غضاضة في الصلاة بمسجد يكون فيه ويؤمه شيخ من أتباع المذهب الزيدي والعكس أيضاً صحيح وماذا تغير أيضاً حتى نرى أبناء الدين والوطن الواحد يسفكون دماء بعضهم بعضا في فتنة اذا ما انفلت عقالها فستصبح خارج إطار أي سيطرة, إن لم يكن لها وحدها أن ترسم في نهاية المطاف الخط الأول لخريطة المستقبل في هذا الوطن وليس مؤتمر الحوار الوطني الذي نراهن عليه في رسم هذه الخريطة.
ليس سراً القول إن من وضع الاستراتيجيات التي تم بناءً عليها تكريس الصراع المذهبي والطائفي في لبنان وتجزئة السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية وتفتيت العراق إلى كيانات مذهبية سنية وشيعية متصارعة ومتناحرة وتحويل الصومال إلى دولة فاشلة وسورية إلى ساحة تغرق بالدماء والأشلاء لابد وانه الذي يتحرك في نطاق مشروع مرحلي مكون من عدة خطوات يسلم بعضها بعض وما يخشى منه أن يكون الدور قد جاء على اليمن وانه الذي ينزلق في ذلك المسلسل من بوابة الفتنة المذهبية التي تطل بقرونها الشيطانية من نافذة المواجهات الدائرة في صعدة بين الحوثيين والسلفيين ولهذا السبب تم ربط بين (لبننة) العراق و(عرقنة) اليمن والذي قد يبدو وارداً في ظل عجز الدولة عن لجم هذه الفتنة التي تمس النسيج الاجتماعي وتدفع به إلى دوامة الدم الذي لا يورث إلا الدم؛ فمعظم النار تندلع من مستصغر الشرر.
الرياض
علي ناجي الرعوي
من (لبننة) العراق إلى (عرقنة) اليمن!! 2094