الثقافة التي نَنتمي إليها ونَنسج منها أفكارنا هي التي تُحدد طبيعة وطنيتنا وانتمائنا وليست الأرض, فاذا ما فكرت بواسطة الثقافة اليمنية, فأنت يمني وإن كنت في الصين وإذا ما فكرت بواسطة الثقافة الإيرانية, فأنت إيراني وإن كُنت في اليمن وإذا ما فكرت بواسطة الثقافة الأمريكية فأنت أمريكي وإن كنت في مكة ؛وما الأرض في الأخير إلا سَكنٌ ومأوى واقتيات وقدسيتها نابعةٌ من نفس الثقافة التي أنت تُفكر بها ومن خلالها..
تلكَ مُسلَّمات وأبجديات لا مراء فيها وعدم التفرقة ما بين الوطن والثقافة المُستوردة يؤدي بالضرورة إلى الخلط في المفاهيم وتلاشي منطقي لمفهوم الوطنية ؛ وعلى مر التاريخ الإنساني كانت المجتمعات تحاول جهدها صَدَّ كُل تلك الثقافات التي قد تتعارض مع ثقافتها الوطنية وتَعتبر أن المَساس بها مَسٌ بالوطن ذاته..! فلا قيمة لوطنٍ ساكنوه يعتنقون ثقافات غيرهم ويُفكرون بواسطتها. وبالاستقراء التاريخي استبان أنَّ مُعظم الحروب التي نشأت بين الأمم ناتج عن "الخوف المتبادل" من السمو الثقافي لإحداهُما على الأخرى وما زال الصراع إلى اليوم ناتجٌ عن هذا الخوف , إنه صراع ثقافي مُتجدد يتجسَّد حين يبلغ ذروته على هيئة " صراع مادي مُسلح " وهذا هو شأن الأمم المتباينة ثقافياً وفكرياً , لكن الغريب أن تتصارع أمة واحدة في ما بينها نتيجة للتباين الثقافي فيما بينها تلك هي الطامة الكبرى ! التي ما ابتليت بها أمة إلا وكان مصيرها الخروج من التاريخ ويصبح وجودها على الأرض لمُجرد البقاء مدفوعاً برصيد الفطرة التي تتشبث بالحياة لمُجرد الحياة فقط و تفتقد هذه الأمة لمقومات الإنتاج والإعمار ويصبح وجودها عبئاً على ذاتها وعلى التاريخ والإنسانية , ولما كانت الثقافة التي نحنُ نُفكر بها ومن خلالها هي الثقافة الإسلامية التي تحُثنا على حُب الأوطان والتفاني من اجلها فسنظل بها ومن خلالها ننُتج أفكارنا المُتعلقة بالله وبالكون وبالإنسان؛ غير أنَّ هذه الثقافة -وللأسف الشديد - نتيجةً لظروف تاريخية ومُلابسات حضارية قد أصابها التشويه واعتراها الدَّخَن وأدخِلَ ما ليس فيها فيها وإذا بها خليط ومزيج من الثقافات الأخرى والأفكار يصعب على الإنسان- متوسط المعرفة- التفرقة ما بين أصيلها ودخيلها !
ولم يسلم من هذا الخلط حتى " تفسير القرآن الكريم " والإشكالية الأخطر عَدم القُدرة المعرفية على التفرقة ما بين الرأي البشري والنص ذاته ..,هذا التداخل في ثقافتنا جعل من السهولة بمكان على عُشاق السياسة استخدام الدين في رؤاهم الاستراتيجية السلطوية, مُستغلين غفلة الأمة وطبيعة المرحلة التاريخية التي تمُر بها بعد تفكك عُرى الخلافة العثمانية ودخول العالم الإسلامي في عصر الانحطاط الحضاري.. هؤلاء العشاق اختزلواْ الدين كله في بعض وقائع التاريخ محاولين بذلك إضفاء الشرعية القُدسية على وجودهم السياسي وأنَّ سلطتهم مُستمدة من الله؛ فالدين عندهم ابتدأ كمؤامرة من السقيفة ومَر بمعركة " الجَمل " وانتهى " بكربلاء " ولا وجود لكل نصوص القرآن والأحاديث فقد اختزلوها كلها في واقعة " غدير خُم ", فالقرآن والأحاديث ووجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرتهُ تدور كلها حولَ " غدير خُم " وبذلك يصبح الوجود كله- ببشره وحجره وأفكاره- مخلوقاً سياسياً من أجل آل البيت وما البشرية جمعاء إلا نقاط حبر في هذه النظرية..
هذا الخلط الثقافي أثر في نمط حياتنا وفي وجودنا كله خاصةً في اليمن الذي مازلنا نعيش هذا الصراع وندفع ثمنه منذ مئات السنين دماءً وأشلاءً وتخلفاً وانحطاطاً إلى درجة الغُثائية وها نحن اليوم نحياها عملياً في " دماج " ..! إنه ليس حادث طارئ أو اعتيادي إنه تجسيد حي للعبث التاريخي بثقافتنا وقيمنا وأفكارنا..
الحوثيون يعتقدونَ أنهم يقتلونَ نُصرةً لله وتمكيناً لسُلطته في الأرض مُمثلةً في آل بيته تحقيقاً لنظرية " الحق الإلهي " وهي هيَ نفس النظرية التي سعت ثورة 48 و 26 سبتمبر لإجهاضها بالدخول في صراع مع معتنقيها " بيت حميد الدين " غير أن إشكالية الثوار أنهم لم يجدواْ الطريقة المُثلى لكيفية تصحيح الأسُس الثقافية التي بموجبها تأسست نظرية " الحق الإلهي " وفي نفس الوقت لم يُنص دستورياً على ماهية هوية الأمة الثقافية والثوابت الوطنية التي لا ينبغي لأحدٍ تجاوزها ..
هذه الغفوة الدستورية والهفوة الثقافية حوَّلت اليمن إلى مهبط ومدرج لكُل الأفكار المُنحرفة الموصوفة باللاعقلانية التي أثرت على الوحدة الوطنية وأصبحَ يغلبُ علينا الميل إلى فقدان الشعور بالانتماء للوطن بعد تعدُد الثقافات الدخيلة علينا ..
هذا التبايُن والخلط انعكس على السلطة السياسية اليوم التي فقدت مشروعية وجودها من الناحية النظرية, فهي تُرحب بقتل مواطنين بطائرات أمريكية ينتمون لثقافة غير مُرحب بها محلياً ودولياً وتتسامح وتتعاون وتغُض الطرف مع الثقافة الحوثية التي تُنافس الدولة في سيادتها على جُزء من الوطن والشعب..! وما إرسال الرئيس لجنة رئاسية - للتوسط ما بين المواطنين اليمنيين من أجل وقف القتال وفشلها في ذلك ورفض الحوثيين وقف إبادة أهالي دماج بالأسلحة الثقيلة كالدبابات وراجمات الصواريخ - إلا شهادة وفاة قانونية للدولـة التي عجزت عن حماية شعبها وبسط سيادتها على جُزء من أرضها وشعبها , وما هذا التحلُل للدولة إلا النهاية البعيدة للعبث الثقافي الذي درجَ السلطويون منذ مئات السنين على تفعيلها في الذهنية اليمنية والواقع اليمني حتَّى تُنتج أفكاراً ماكرة شعبيةً بينية تستهدفُ فقط إشغال الشعب عن معاشه وحياته وتمكين الحاكم " المُقدس " من الاستمرار في السُلطة والغريب في هذه الإشكالية أنها أصبحت تقليداً سياسياً وكأنهُ لا يمكن حُكم اليمن إلا من خلال الاستمرار في العبث بالتناقضات التاريخية التي انتجتها الثقافات المُنحرفة ..
هل هُنآك ضرورة لدعم الحوثيين..؟! وهل هُناك ضرورة لتفخيم القاعدة إعلامياً بعد أن قاربت على الانقراض ؟!.. إنها أفكارٌ سياسية تقليدية ماكرة.. أيها الرئيس ابتعد عنها وكُن أباً وأخاً لليمنيين لا مُقلداً لِجلاديهِمْ..
د. عبدالله الحاضري
أفكارٌ سياسية ماكرة!! 1322