قالوا, إنها بعد أن أخذها الله (عنده) كما تمنت قبل ما يزيد عن نصف قرن, ظلت وديان إب تسمع صوتها الأسطوري بهجلته الملائكية يتموج مع الريح كموال سحري من عالم آخر.. قالوا فيما يشبه حكايات الجنيات أو الروايات القوطية.. أسطورة أخرى من أساطير إب.. تسللت إلى وعيي الحداثي باكراً عبر حواراتي مع أبي سنين عماه الأخيرة رحمه الله قبل عقد وأكثر.
في مواسم الحج بالذات, كان اعتاد أبي أن يجتر حزنا, وهو يقاوم بما يشبه البكاء التصديق وإلحاح ذاكرة لا تمل الحنين, صوت امرأة عرفها بشرية ككل البشر, كان أقرب إلى هديل الحمام وأعظم سحراً من غناء (الهزار).. كان يقوى على شفاء الصداع من رؤوس الفلاحين.. يحسّن محصول الذرة الشامية ويكثر علفها ويدر اللبن في ضروع المواشي..
قالوا: بعد موتها الغرائبي العجيب.. بعد اختفاء صوتها ورحيله المباشر من الجنبات والأفق مع الغمام والرحمة, لم يبق في إب ما يكفي لدرء شرور عالم لطالما توثب قبل دولة للإجهاز على فردوس إب وإخراجها من عزلتها الأبدية.. حل القحط حشفا في ضروع البقر وسيقان الصبية الجوعى.. أقبلت الجراد وكثر القمل والنمل و شحت المياه.. وعرفوا الجدمي يلتهم اخضرار حقولهم لأول مرة.. فقط بعد رحيل دولة الهجّالة, أقبلت حضارة الموت والموتى تعرج على أسفلت قميء.
حاولت جاهداً أن أبحث عن عنوان بديل للذي أعلاه خشية أن يُقرأ سياسيا ويفقد هويته الفنية المجاهدة للابتعاد عن السياسة وعن إسقاطات محتملة للألفاظ على عواهنها بين (دولة) تنتحب اليوم تحت خناجر أبنائها المنتشين فرقة وجهلا واغتراب , وبين (هجّالة) قد تسقط شدّتها سهوا فتحيل القارئ إلى (جهالة) اعتادت السياسة والسياسيين.. السياسة والساسة الحاضرون حتى في غيابهم متنا يحول كل الحقوق إلى هامش, وإن كان الحق أقل من أن تستأهل امرأة عاشت قبل نصف قرن أن يكون اسمها الموغل في المحلية طرفا في عنوان لمقال انتهازي مهلهل.. كأن يكون بالمثل تغييب مضاعف ومضاف لما هو غائب ومغيب أصلا في إرثنا الشعبي كالهجالات وفن الهجلة الرعوي المنقرض تماما تقريباً.
سأفر سريعاً من هذا الكابوس المسمى سياسة خشية أن يسلبني بقية ما قدرته أن يكون في تأبين إحدى الحالات الثقافية ولون في طيف فلوكلورنا الذي ينزع وقد يموت قريبا دون أن نقوى حتى على ما يشبه الاحتفاظ بجثته في ذاكرتنا المهرولة.
تكاد دولة أن تغييب تماما عن أي تصنيف علمي أو حتى إشارة تاريخية, متحولة إلى افتراض هو أقرب إلى الخرافة, ولولا أن دولة مثلت في ذاكرة الإبيين منذ عقود ما يشبه الظاهرة فلا ينكرها أحد مع تباين في التفاصيل .. ولولا أن مصدري العلمي الوحيد لما اتحدت عنه هنا هو البعض من الثقات من أهل المدينة والذين كان منهم أبي كمؤرخ معتبر وفقيه وعالم معترف به في إب على الأقل , لكنت تريثت رغم تريثي لسنين قبل كتابتي المقال هذا. فناهيك عن دفنها في أرض غير أرضها بعد موت فيه من الفانتازيا والغرائبية ما فيه , تكاد (دولة الهجالة) ألا يُعرف لها أصل أو تُــذكر لحياتها ملامح أو تفاصيل.. فحتى بنت من كانت أو أين كان بيتها , اختلف والدي مع أمي كل سنين تذكرهما لها بشكل لافت ومحير.. فقط فهمت من خطاب صراع الذواكر المستنزفة المجبولة على الخذلان ككل شيء في إب, أنها كانت بلا أهل, امرأة وحيدة قدمت فجأة بلا ماض من الريف – وغابت فجأة أيضا حين أحست بحدس الصالحين بدنو الأجل فلم تُر بعدها كأنما دشنت مشروع غياب بحجم مواز لحجم الحضور الذي مثلته في وجدان الحقول في إب بقميصها الصنعاني الوحيد وابتسام وجهها الأبيض المخفي نصفه خلف سترة غاب لونها للشمس ككل شيء غاب: نصف قرن آخر كضرورة لانطمار أي معلم أو شاهد على حقيقة وجودها يوما ما من ذاكرة نصف قرن سابق.
أمي كانت ترفض وبكل جرأة رغم وعيها والتزامها بالفارق المعرفي والثقافي بينها وأبي, ما تسميه (خزعبلات) صاحبت حياة (دولة) الفنية الفريدة فعلا - ولكن يراد تحويلها إلى خرافة - متهكمة على كل ذلك بقسوة واثقة وبصوت خفيض ليتقبل أبي كالعادة برواقية الفقيه وموضوعية العالم وهو يغمض عينيه اللتين أعطنتهما عقود مديدة من القراءة والبحث والمغامرة: قالوا.. يحيل إلى المصادر بكل بساطة تاركا الملعب لما يكاد يكون انتصار أمي الوحيد عليه في كل حواراتها معه عبر السنين.. فتنطلق كالعادة بنزق المنتصر: قالوا .. الناس هم يقولوا.. ماني الله لا شهدني!!.
أنا شخصياً أميل إلى من (قالوا) هذه خاصة وأني قررت بدءاً أني أتحدث عن أسطورة.. هناك ما يلهمني دوما كلما وصلت إلى نهاية الأسطورة.. الاتفاق الصريح والدائم ليس بين أبي وأمي وإنما بين معظم من سألتهم حول ظروف موت دولة ودفنها, الأمر الخارق للعادة الذي قد يؤسس لصدق ولو نسبي في بقية التفاصيل أو حتى ترجيح مبدأي للرواية الرومانسية السحرية لمعسكر أبي ضدا على الرواية الواقعية العقلانية لمعسكر أمي.
قد اصدق أنا أن أداءً موسيقيا شفاهيا بدائيا وطقسيا إذا منح القدر الكافي من الحرمان والعزلة وصوتا استثنائيا كالذي لطائر الهزار قد يلهي الفلاحين البسطاء عن آلام رؤوسهم تحت سوط الهجير والعطش والإعياء في الحقول.. أو انهم يدّعون ذلك مبالغين في لحظة تقييم فني متطرفة لينتهي تاريخ الحادثة إلى تفسير ماورائي فانتازي بريء يواكب العصر الذي احتضنه ويتفق وعقليات ورؤى من عايشوه و يتناسب حتما وذاكرة من يتذكروه كأبي.
مع تاريخ يصلنا عبر خطاب بسلوك تشكلي كهذا وبظروف تكوينية وإملاءات ابيستمولوجية كتلك قد يكون من السهل قبول أن عاملات جز عشب النجيل الذي يستخدم كغذاء رئيسي للمواشي في اليمن كن يسمعن صوت دولة من على بعد كيلومترات يتردد كسمفونية تقام في مسرح مكشوف في الجوار فتهمد أصواتهن المتمتمة بهجلات متواضعة جدا مقارنة بقسوة النموذج الذي قدمته دولة بحرفيتها العالية وموهبتها الصوتية الخارقة للعادة. قالوا جلود الرعاة والشيوخ المستظلين من الهجير بالأشجار وقتها كانت تقشعر.. الرضع يكفون عن بكائهم فور وصول صوت دولة مع الغمام.. الأبقار(الطالبات) يكففن عن عصابهن التسافدي كل موسم.. معجزة صوتية أودعت في امرأة منسية لكن محظوظة جداً.. أو هكذا (قالوا).. كان أبي يضع للأسطورة حدودها الميثولوجية الدقيقة بكل اقتدار.. (قالوا) .. تحت ضغط علمي عفوي ملح من عقلانية أمي الأمية أصلاً.
قالوا: الهجلة كانت طقوس رعوية صرفة تقام في مواسم البذر والتعليف والحصاد, غير أن دولة أحدثت في النظرية قبل موتها بسنين حين تنازعتها حمى قاتلة من شعور بقهر واشتياق. شحبت وغابت بشرتها البيضاء خلف ظلة رمادية أتت حتى على بقايا تبسمها الأزلي فتوارت كألوان قميصها الصنعاني وسترتها الذين بدء الإهمال يربك اتساقهما المعهود منذ عرفت إب دولة وهجلتها. قالوا : خالط صوتها بحة من نحيب مكبوت وسُمعت تموجات متقطعة وسط ما كانت تهجله كغصة تقاوم البكاء. كانت ابتدعت طقسا (هجليا) بطابع ديني لأول مرة.. عمدت سنين أفولها الأخيرة إلى وداع واستقبال الحجاج عند مشارف المدينة. شكت للبعض شوقها المتزايد لزيارة بيت الله الحرام.. قالوا إن عوزها الذي لم يلتفت إليه أحد كان من قتلها حيث لم تكن لتسأل أحدا قط رغم كونها لم تكن تعيش إلا مما يمنحها الناس من حبوب وغلال, واشتد بها الحزن وهي تستقبل وتودع كل عام أفواج الحجيج فكانت تبكي بلا توقف كأنما كانت تبكي عمرها الباسم كله هجلة وطرب ولكن دفعة واحدة. كان مما تردده بلهجة محلية في هجلاتها الحصرية لتلك المناسبات: ودعككم يا حجيج مكة والبيت الحرام, وأوصكم زيارة النبي خير الأنام, بلغوا شوقي إليه وأقرئوه مني السلام.
قالوا إنها غامرت وذهبت مع أفواج الحجيج دون زاد أو ماء.. وقالوا إن أحد الموسورين منحها هبة وقالوا إن أسطورتها بدأت هناك حيث انتهت: فما إن وصلت ورأت الكعبة حتى انفجرت قريحتها بما حفظته الأجيال جيدا مع الحادثة المنقولة بعدها ولعقود.. قالوا أن صوتها ملأ الحرم وهو يجلجل بما لم يسمع منها سوى تلك المرة فقط: رحبي كعبة ربي بمن أتاك ملبي, قد أتوك ذنوبا كل ذنب تلو ذنب, تائبين ومن ذا يغفرها غير ربي.
لكنها لم تكف عن البكاء ولا كفاها وصال كذاك. انفجرت بقايا زمازمها دموعا وشوهدت تنتحب كالممسوسة في كل المناسك .. اشفقوا عليها وظن البعض أن لوثة أصابتها.. اقتربت بجحوظها والهزال من الموت أميال, قالوا أنهم ما سمعوها أيامها الأخيرة إلا تنشج بمرارة وهي تلهج على الدوام داعية متضرعة متوسلة خاشعة منتحبة بلهجة إبية نسوية بسيطة مؤمنة وضاربة في التاريخ والأصالة والبدائية: يا رب معاشتيش أتروح .. شلني عندك يا رب.. معاشتيش اتروح يا رب.
قالوا قتلها البكاء, وقالوا المرض, وقالوا جهد السفر.. قالوا الأجل ولا غير.. قالوا ماتت جوعاً وعطشاً.. قالوا وقالوا.. غير أنهم أجمعوا فيما يشبه جوقة واحدة تحولت إلى هجلة وحيدة أخرى في ذاكرة إب والعزلة, أنهم دفنوها بأيديهم في البقيع.
محمد الهيصمي
دولة الهجَّالة.. 1474