;
جبران خليل اسماعيل
جبران خليل اسماعيل

طرد الدين من الساحات و أزمة التقليد المرحلي للغرب 1431

2013-10-28 09:21:24


يعتقد البعض من المثقفين العرب سواء المتواجدين في الدول الأوروبية حاليا أو مثقفي ميدان التحرير في مصر أو المنتقمين من الدين في اليمن ولو بشكل أخر، أن التخلص من الدين ضرورة للوصول إلى التنوير والحداثة، وينظر بعض من هؤلاء المثقفين لمعارضيهم بالرأي بنظرة العالم للجاهل كما أن بعض التقدميين من المثقفين العرب يرون انه من الضرورة أن تكون ملحدا لكي تكون مثقفاً وهؤلاء فهموا الحداثة والنزعة الإنسانية بشكل غير صحيح بأنها التمرد على الله من اجل الاهتمام بالإنسان ولكنها بحسب فلاسفة التنوير لا تعني ذلك ولكن تعني الاهتمام بالإنسان لأنه اعظم مخلوقات الله ولأنه خليفة الله في أرضه, كما وان فولتير وهو الذي خاض معارك كبيرة ضد التزمت الديني كان يوضح دائماً بأنه لا يحارب الدين و إنما الكنيسة السلطوية القمعية و لكن تم تناسي ذلك من قبل الأجيال التي لحقته. ومن المثير للدهشة موقف بعض المثقفين العرب وبعض الباحثين الأوروبيين الذين يستنكرون اليوم أصوليتنا الإسلامية و يتهموا الإسلام بأنه سبب التخلف و هذه تهم باطلة لأنهم لو راجعوا التاريخ لاتضح لهم أن أصوليتنا الإسلامية اليوم هي لا تختلف عن الأصولية المسيحية قبل ثلاثة قرون وان الأزمة ليست بسبب الإسلام ولكنها مرحلة تمر بها كل الشعوب بل أن الأصولية المسيحية كانت مزرية اكثر ودليل ذلك محاكم التفتيش وصكوك الغفران ومجازر البروتستانت و في اعتقادي أن سبب ذلك هو خلط التقدميين العرب بين كره رجال الدين و الإسلام كدين. أما التقدم والذي كان الهدف الاسمى خلال القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر والذي حل تقريبا محل الدين المسيحي لدى بعض المفكرين فقد تلقى أول هزائمه مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وثانيها مع الحرب العالمية الثانية حيث استغرب الكثيرين كيف يمكن لأمم حضارية كالشعوب الأوروبية أن تتعامل بمثل تلك الوحشية وقد كان من المتوقع أن تنتهي الوحشية بانتهاء العصور الوسطى وعصور الهمجية , كما أن الإنسان الأوروبي المعاصر لا يفكر إلا في العمل و الإنتاج وتجميع المال اللازم للاستمتاع بالحياة الدنيا والشبع من المتع والملذات ولا يفكر بالحياة الآخرة لأنها غير موجودة بالنسبة إليه وبالتالي فأنه لا يوجد خوف من حساب أو عقاب ولذا تضمحل عنده القيم والمبادئ و الأخلاق نتيجة لتعظيم قيمة الاستمتاع بالملذات وهذه أزمة لمرحلة الحداثة. من سمات عصر الحداثة الغربية أن يتغلب العالم على رجل الدين والفلسفة على الدين والعقل على الإيمان واضمحل الدين حتى اصبح شان شخصي ولان الكنيسة لم تتوافق مع التقدم والحداثة فقد احتقرت واضطهدت من قبل مجموع الحداثة وكادت الحداثة في حربها مع الأصولية المسيحية أن تقضي على الدين نفسه ونظرا لشعور نخبة المثقفين الجدد بضرورة تغيير الموقف ظهرت مرحلة جديدة مرحلة ما بعد الحداثة. و من وجهة نظر هانز كونغ أن الأزمة الحالية الروحية و الأخلاقية للحضارة الغربية والتي يعاني منها الغرب منذ الحرب العالمية الأولى هي بسبب غياب الدين , ويؤكد هانز كونغ انه اذا كان فلاسفة الحداثة من أمثال فويرباخ , ماركس /نيتشه / فرويد .... قد انتقموا من الدين وأعلنوا موت الله أو غياب الله , فانه لا يريد إن ينتقم من الحداثة وإعلان موتها ولكن يتوجب الاعتراف إن قطار الحداثة قد وصل إلى أخر محطة له وان موت الدين والذي تنبأ به فويرباخ وماركس ونيتشه لم يحصل وان الذي حصل هو موت الإيمان الطفولي وغير المستنير المتعصب. إن حكماء الغرب الآن يعترفون بأنه عصر الحداثة حقق الكثير في مجالات التكنولوجيا والصناعة ولكن لم يحقق نفس الإنجازات على مستوى الأخلاق والقيم وان هناك اختلال توازن في هذه الحضارة , ودليل ذلك الجشع و الأنانية وتكالبها على العالم الثالث الفقير الذي يموت من الجوع . و بحسب هانز فان افتراضية الوصول إلى ما بعد الحداثة لا يمكن أن تحدث إلا من خلال مراحل ثلاث الحماية من الانغلاق الفكري والعقائدي من خلال المحافظة على الأسلوب النقدي لعصر التنوير, الحماية من النزعات الاختزالية لعصر الحداثة والانكفاء نحو العقل والعلم والتقدم دون إضافة البعد الروحي والإيماني وأخيرا النظر إلى الواقع بكليته المادية والروحية . و من ما يؤيد هانز التجربة الفريدة لهوركهايمر الذي يمثل مدرسة فرانكفوت ويعتبر احد مؤسسيها, فبعد أن جرب كل الاتجاهات العقائدية والماركسية والنقدية راح يدعو إلى الإيمان بالله فبعد تعلقه بنيتيشه وشوبنهاور لم يجد معنى للحياة يتجاوز الأكل والشرب والجنس , ولم يكن لديه حل سوى العودة إلى الإيمان الديني لان الفلسفة لا تكفي.
وبحسب المفكر هانز كونغ لا تعني مرحلة ما بعد الحداثة أنها عكس لمرحلة الحداثة ولا تعني التنكر لإنجازات الحداثة , ولكنها لا تتعامل مع الدين بنفس الأسلوب فالحداثة طردت الدين من الساحة , وهذا حل لا يمكن إن يدوم للأبد فالدين لابد إن يحظى بالاهتمام مثل الفن والسياسة والمجتمع .... الخ . بالطبع أن التنوير العربي الإسلامي لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي فالمفترض أن نتجاوز كل أخطاءهم وتطرفانهم مع الدين والتي وقعوا فيها خلال القرون الماضية وان لا نكررها وأن نبدأ فعلياً من حيث هم الآن و أن نبدأ من مرحلة ما بعد الحداثة بدلاً من البدء من الحداثة و لكن كيف يمكن أن نعود بالإسلام إلى معناه الإيجابي وتجنب المعنى الضيق والمتزمت الذي يركز على القشور والأمور الثانوية ؟ أن محاولات بعض رجال الفكر إلى تقديم العقل على النقل في أطروحاتهم تعد بمثابة خطوة نحو الطريق الصحيح لتقديم الدين بشكل مقبول وجديد و هذا يتضح من خلال الاطلاع على مؤلفات الأستاذ نصر حامد أبو زيد من خارج التيار الأصولي وأيضا محاولات من داخل التيار الأصولي للدكتور طارق السويدان والذي تعرض للنقد الشديد من قبل بعض رجال الدين الأصوليين والذي من وجهه نظري قد يقارب دورة دور تاما الكويني (1225-1274) للدين المسيحي. كما أن مواجهة حقيقة أن علماء الدين يوجد منهم من يخشى الله ويتقيه ومنهم من يستغله لتحقيق مآرب ومتع شخصية و الاعتراف انه وفي كل الأحوال يظل رجال الدين بشر غير معصومين من الخطأ , هو خطوة هامة لتنقية الدين من الشوائب التي سببها بعض رجال الدين كما أن التفريق بين الدين وبين تأويله أو تطبيقه مهم جداً للخروج إلى مرحلة ما بعد الحداثة فالدين مثالي , روحي , طاهر , وطريقة فهمة قد تكون صحيحة وقد تكون منحرفة وخاطئة ودليل احتمالية الصحة والخطأ هو وجود الاختلاف بين العديد من التيارات الدينية سنية وشيعية ووجود العديد من المذاهب في اطار كل تيار وشتان بين الدين في وجود محمد رسول الله والدين الآن بعد اكثر من 1400 عام مع أيماني بعدم التغيير في كلام الله ويقيني باحتمال الخطأ في تأويله من قبل رجال الدين. و بشكل عام فالدين في مراحل الجهل والانحطاط يتم قرائنه بطريقة متزمتة ومغلقة ومتعصبة أما في مراحل الازدهار فيتم قراءته بطريقة منفتحة وراقية ومتسامحة و متفائلة و حيث و المسلمين الآن يعيشون مرحلة الانحطاط فقد أدى ذلك إلى غلبة ظهور فئة تدعو إلى التشاؤم و التجهم و العبوس و التزمت على الرغم من تعارض ذلك مع الإسلام الحق الذي يدعو للتفاؤل و التبسم و التسامح وإظهار السعادة والفرح ( كان رسولنا الكريم يتعوذ من الحزن يوميا) وهؤلاء هم سبب تصوير الإسلام بشكل سيئ للمسلمين قبل غيرهم. إذا كان الأوروبيون قد ناضلوا لمدة ثلاثة قرون لتفكيك لاهوت القرون الوسطى , فكم يلزمنا نحن ؟ لكن لا داعي للتشاؤم فما يدعو إلى التفاؤل أن حضارتنا كعرب لم تقم إلا بعد ظهور الدين الإسلامي ومن ثم ظهور الدول الأموية العباسية وغيرها أما الغرب فإن الدين كان عائق أساسي أمام حضاراتهم , كما أن ديننا لم يتناقض مع أي حقيقة علمية بعكس الدين المسيحي الذي تعارض مع الحقائق العلمية وبالتالي اضطروا إلى طرده من الساحة , وإن كان هناك وجه شبه معهم في بعض الحالات عندما حاول رجال الدين في السعودية منع التقدم التقني ومنع إدخال الهاتف والتلفزيون و هذا يماثل الكنيسة في العصور الوسطى التي كانت تخشى أي تجديد أو رأي مغاير وتعتبره بدعه شيطانية وفتحت مكتباً للتفتيش وأدانت التقدم الفكري و أيضاً التقدم التقني. أن نبدأ من حيث انتهى الأخرون هو شعار يستخدم من الكثيرون وأتمنى أن نستخدمه فعلياً في التغلب على الأزمات التي نواجهها حيث وأن المحاولة إلى الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحداثة و عدم طرد الدين من الساحات (والتي يدعو هانز الغرب الآن إلى تطبيقها في بلدانهم) بدلاً من التقليد المرحلي للغرب هو مخرج حقيقي للازمة الحالية التي يمر بها العرب حيث سيؤدي إلى تقليص للفجوة الشاسعة بين المرحلة الحالية و مرحلة الحداثة التقليدية و ذلك من خلال التركيز على التغيير الثقافي ومنح المجتمعات الوقت الكافي لتنضج أفكارها و تصبح جاهزة للتغيير الحقيقي الناجح و ذلك لان إيجاد الحداثة عبر الاستعجال للظروف و التغيير القسري الخارجي أو الداخلي يؤدي غالباً إلى رد فعل هائج و عنيف و دليل ذلك ما يحصل في العراق الآن أو ما الأحداث الدموية من قبل العسكر في مصر اللذين لم يتعايشوا من الديمقراطية و الحرية التي وجدت بين عشية و ضحاها.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد