إن سرقة "الوعي" لا تختلف عن سرقة "المتاع"؛ ومظاهر هذه السرقة أجل من أن تحصى؛ فالإفتاء -مثلا- في تخصص لا تخبره أو تملك أدواته بانياً عليه قراراً ما هو إلا سرقة أو اغتصاب لحق الغير وإن شئت سمِّه انقلاباً على ذلك الذي يمتلك التخصص والذي هو الأجدر أن يفتي فيه ويتخذ القرار؛ لأن الفتوى ستكون في محلها والقرار في صوابه ! لكن هل تعلمون أن "سرقة الوعي" أشد خطراً وأكبر نكاية عند الله من "سرقة المتاع"؛ ففي سرقة الأخير يصيب الضرر أو الخطر السارق والمسروق أو السارقة والمسروق، فمداه لا يتجاوز شخصين أو أَمَتين لكن سرقة الوعي يضر "أُمَّتين". وهل الواقع الكئيب الذي حل على الأمتين الإسلامية والعربية إلا بسبب أن الفاشلين غير المتخصصين قاموا بسرقة الوعي من أصحاب التخصص المعتبرين؛ فصار الأولون السارقون باسم المسروقين والمغتصب حقهم يتحدثون وعلى عقول الشعوب بخرافاتهم يضللون ويوقِّعون. فما حصل في مصر -مثلا- هو انقلاب أهل البيادات على أهل الحريات؛ فمن غاية عقله مفصلة على مقاس العبادة أو البيادة صار يتحدث باسم الأمة الإسلامية والعربية سواء، فكان منهم من ضل عقله داخل رأسه وظل بدون عقل أو من ضل عقله داخل رأسه فاستعاض عنه بعِقال فوقه رأسه, لكنه لم يغن عنه شيئا ذلك العقال وقد عطل عقل ربه لتصير معبودته أمريكا وإسرائيل. ليعلم الجميع أنه ما قامت الثورة إلا لتنظيف الرويبضة (ناهب أو مغتصب وعي الأمة ومختزله في دكتاتوريته ليصبح المتحدث الرسمي باسمها والممثل الأصلي لها وهو غير أصيل؛ ليرجع يذيق الأمة سمه بعد أن وضع على وعيها الجمعي رسمه أو ختمه بختمه. إذا مشكلة الأُمتين تكمن في إزاحة أصحاب التخصصات ليفتي بدلا عنهم في تخصصاتهم الفاشلون وليس علي كفتة وبلاويه عنا ببعيد، ولا أقصد بالفشل هنا ما يتضاد مع النجاح؛ بيد أنني أقصد به هنا عالم الفيزياء الذي يفتي في مجال جراحة القلب والعكس صحيح؛ بمعنى أن أعلم أهل الأرض بالقوانين الرياضية أو الفيزيائية هو فاشل بامتياز في ميدان وعي الإنسانية (علم السياسة) الذي هو علم الحياة أو علم قيادة عقل الإنسانية -المفطور على الحرية والذي يعمل عبر روشتة أو سياسة الإقناع لا الإخضاع - إلى بر الأمان؛ لهذا نجد العلمانيين البارعين في تخصصاتهم العلمية البحتة فاشلون بدرجة امتياز في مجال السياسة أو مجال قيادة العقلية الإنسانية وهو ما نلمسه جليا في واقع الأمة الإسلامية والعربية عندما تولى قيادتها العلمانيون وإن شئت قلت: المجانين؛ وهم مجانين؛ لأنهم ادعوا قدرتهم ومعرفتهم بقيادة عقل دون الرجوع إلى كتلوج الصانع (الذي أتقن كل شيء خلقه) وإذا طلبت من أحدهم أن يقود مركبة يجهل طريقة عملها سيرفض مطالبا إياك بالكتلوج؛ فبالله عليكم أليس الذي يدعي قيادة عقل من صنع الإله ويفشل في قيادة مركبة من صنع إنسان مجونا بدرجة امتياز !!!. قد يسأل سائل سؤالا هو - بتصوري - في غاية الوجاهة ومفاده: أنت تقول إن العلمانيين البارعين في تخصصاتهم فاشلون في قيادة الحياة ! لكن ماذا عن النجاح في بلدان الغرب وأوروبا ؟ والجواب بكل سهولة ويسر: أن تلك البلدان ما قامت ونهضت وتقدمت إلا عبر طريق واحد أو مبدئ واحد -كان حلالاً لهم ومحرماً علينا- !! أتدرون ما هو ؟ إنه "مبدأ الحرية" التي بنت عليه دول الغرب وبعض دول الشرق -ومنها إسرائيل وإيران - هياكل مؤسساتها فقامت تلك الدول على مبدأ الحرية؛ فرئيس الدولة والبرلمان والحكومة يمثل الشعوب هناك تمثيلاً أصيلاً لأنه وصل إلى مكان القرار بانتخابات شعبية شفافة ونزيهة عبر صناديق الديمقراطية -التي مثلت للغربيين والعلمانيين إلها أو معشوقا في حين أنها هنا في بلدان الشرق عموما وبلدان الربيع العربي خصوصا صارت بالنسبة لهم ولعلمانييهم أخطر من الشيطان الرجيم ومأوى الإرهابيين. والديمقراطية والحرية هما -بتصوري- وجهان لدولة واحدة هي "الدولة المنية" ولست هنا مجبرا لأقول لكم أن ما يخص الحقوق والحريات والتشريعات في بلدان الغرب كأنه مولود من رحم إسلامية، لتصدقوا مقولة من قال: زرت بلاد الغرب فوجدت إسلام بلا مسلمين، وزرت بلاد العرب فوجدت مسلمين بلا إسلام ؛ فالإسلام قيم بيتها الوعي وليس جثث مكتوب عليها مفردة "إسلام". وما دامت الأمة الإسلامية قيمها مختزلة في وعيها لا في جثثها أو براميل دمها؛ فإن سرقة الوعي لا يعني سرقة شخص أو أمَة بل يعني اغتصاب أُمة نعم اغتصاب حق الأُمة كلها وهو خيانة عظمى لان ضرر مثل هذه سرقة يضر بأفراد الأمة كلها. وعليه فإن اتخاذ قرارا بفتوى بعيدا عن أهله المتخصصين والذين هم علماؤه المفتون هو سرقة وسرقة بكل المقاييس، ولا يمكن أن نختلق له اسماً آخر أو نصبغه به ليكون الاسم أشبه بمكياج يجمل الوجه القبيح، وإن الذي يقترف مثل هذا جرم مهما كان موقعه في الإنسانية أو المجتمعية أو الحزبية فإنه خائن للأمانة أولا (أمانة الوعي) لأنه انقلب دكتاتورا يفتي بلسان أو وعي غيره، وهو خائن للثورة ومبادئها ثانيا؛ فهي ثورة التغيير؛ تغيير لا بقاء فيه للعقلية المتحجرة والمعسكرات العتيقة العميقة، وهو خيانة للشهداء ودمائهم الزكية الطاهرة، شهداء الوعي المتحرك الذين ثاروا ضد المحنطين والمغلفين بأغلفة داخلية وراثية أو مغلفة بأغلفة خارجية عميلة تعمل بريموت كنترول أمريكي أو إيراني أو سعودي/أماراتي. إنه إذا ادعى مدعي العلم بكل شيء فإن الله وحده فقط هو القادر على كل شيء فلا تُألهون أنفسكم لتختزلوا وعي الأمة في عقولكم القاصرة أو المجمدة مثل تلك الدجاجة المجمدة المكتوب عليها "ذبحت على الطريقة الإسلامية"؛ فأنتم لستم الإسلام أو نصوصه فلا تنقلبوا بتأويل نصوصه لصوصه؛ فأنتم لستم معصومون من الخطأ ؛ لأن المعصومين -صلى الله عليهم وسلم- قد رحلوا عن دنيانا فلا تدعون لأنفسكم النبوة والفتوة وأنتم كهول الوعي، فدعوا التخصصات للمتخصصين ولا يسرق بعضكم وعي بعض حتى تستقر الحياة وتهنأ الإنسانية.
د.حسن شمسان
إلى محترفي لصوصية القيم: احذروا الاصطدام بجدار الندم (!) 1293