حين تقف الشمس بمحاذاة أنفي، أشعر برغبة للهروب إلى تلك التلة القريبة.. أود البحث عن روحك التي تحلق في الأفق وهي تتأملني بصمت.. أتراك تشعر بذلك يا ولدي..؟ أو لعلك -يا فلذة حرفي- غير آبهٍ بحبي, الذي أضحى يغطيك كغمامة مسافرة في مداك, وبملء صمتك ترفضه..؟!
ثمة شهقة، عسجدت فيَّ وأنا أرقب نموك على راحة يدي وراحة فؤادي, وأخرى، غادرتني وفي يدها تراتيل أحلامي، التي رأيتها فيك مذ وطأتَ دنياي، التي ما عشتها قبلك فعشتها فيك..
لذلك, كن حيث أراد لك القلب.. فأنت يا نبض نبضي.. أنا.. وأنا, إن كنت آثرت من دنياي, فإنه لغدك الذي ما زلت أنشده وقد أفنيتُني لأجله.
- رهن إشارتك يا أبتِ.. أفعل ما تؤمر إني لك من الطائعين..!!
- هذا ظني بك..
- قرأت لك الكثير، وترعرعت على تلك الحروف السامقة حد السماء, يؤرقني بوحك الحزين، ويحزنني ألمك المهرق حد المدى, أتكتب نفسك يا أبتِ..؟
- ليس بالضرورة, لكنني أكتب.., علنَّي أستوحي كتاباتي من ذلك النزف الصامت.
- لكنهم يتحدثون عن تناولك للهم الإنساني في كتاباتك بطريقة فيها تمرد على الواقع..؟!
- في الواقع, أنا أعشق التمرد حد الإدمان, بشرط أن يكون ضمن الدائرة التي حددها الشارع, في أغلب الأحيان أشعر بروحي تتمرد, فتهرب مني دون إرادتي, ألحظ مفرداتي تتمرد على قلمي الذي كوّنها حبراً على ورق, يبدو أنني أعيش حالة هذيان حبري متمردة, لا تنتمي إلى الحالات العقلية المشوشة, وإنما إلى الإدراك الحسي المضمخ بمرايا الوعي، التي آمل أن لا تكون مقعرة.
- هل ذلك التمرد رغبة فيك، أم أنه مناخ تتبعه لترى فيه ذاتك وتقرأ فيه طقوسك التمردية..؟
- لعله مناخ أنأى إليه من تلك الرتابة التي نعيشها، ورفضاً لواقع اجتماعي اكسبوه صفة الثوابت، لتثبيت زيفهم على مساحة جهل المجتمع، لذا، فأنا أرغب في التمرد على ما يعتبرونها ثوابت اجتماعية، لا يجوز الفكاك منها، كأن أحجم عن زيارة صديقي يوم عرسه مصطحباً الخراف والهدايا، أو أمتنع - مثلاً - عن ارتداء الجنبية ولبس الثوب و"الغترة"، أو أن أذهب للمشاركة في تسيير "هجر" مرتدياً بدلة وربطة عنق, أو أن آتي بمقرئ ليتلو القرآن في يوم زفافك، أو أن أرتدي نعلين وأدخل بهما أحد مساجد صنعاء القديمة لأداء الصلاة، أو أن أتحدث بالهاتف إلى زميلتي في حضرة زوجتي متجرداً من الخوف الذي اعتدنا عليه معشر "القبائل"..! أو أن ألج قاعة المحكمة، وأنا ارتدي خفين متخالفين قد يلحظهما جميع من في القاعة باستثناء القاضي ومعاونيه ..!
ربما تتهمني بالجنون أو الخرف، أو قد أتعرض للاعتداء من جمهور العامة، إذا ما أقدمت على ذلك, خصوصاً، عندما يرونني منتعلاً حذائي داخل حرم الجامع, لكنني أتساءل.. ترى لماذا سيقف الكل ضد رغباتي.. مع أن بعضها أو كلها تقف تحت سقف شريعة السماء، وليس فيها تعدٍ على الثوابت الوطنية؟!
لعل ذلك من باب الحفاظ على المبادئ، التي نحتها الساسة على أبواب ثوراتنا الـــــــــــــ فاشلة..!!
مع هذا, ثمة تمردات تعلن عن نفسها في هذا الوطن الكسيح، الذي يبدو ساحة مفتوحة لتمردات من نوع خاص، لا علاقة له بتمردي أنا سارق النار..!
صعدة، تتمرد على نفسها.. الضالع، تستجدي التمرد في تمردها.. عدن، هي الأخرى تناضل من أجل التمرد.. حضرموت، تنام وتصحو على زخات تمردية متفردة.. أبراج الكهرباء في مأرب، يمردها (كلفوت) وأمراؤه.. شعراء الحداثة، أيضاً لهم تمردهم الخاص.. وحتى النحاة الجدد، يحاولون التمرد على سيبويه ورفاقه.. الجميع، يريد التمرد، ويسعى من أجله، باذلاً كل ما بوسعه, في ظل أجواء ملائمة لتحقيق الرغبات التمردية الكامنة.. وحدي، أعجز عن التمرد كما أحب، حتى قلمي، الذي كانت هنالك بعض النبوءات باحتمالية إعلانه التمرد على الواقع المُلَغمَّ بالإحباط, سقط مني في إصلاحية سجن تعز المركزي, أثناء قيامي بعمل تحقيق صحفي لإحدى الصحف المحلية حول وضع الإصلاحيات في السجون اليمنية، ودورها في تأهيل السجناء.
العجيب في الأمر, أنه سقط في قسم المصحة النفسية, حيث يقطن المتمردون على الوعي, ربما هم الأجدر بكتابة ما أحلم به، لذلك تم التخلص منهم، كما تخلص مني ذلك القلم، الذي عجزت عن تحقيق أحلامه. ما زادني ألماً وحسرة, أنه أصبح خلف القضبان, تتقاذفه أقدام المجانين ويمرغون حبره في التراب..!
حينها، هاتفتُ رئيس نيابة تعز بلطف ورجاء, علّه يأمر بالإفراج عن قلمي، أو أن يسمح لي بزيارته بعدما أصبح أنينه المكلوم يصل مسامعي, غير أنه تجاهل طلبي، وارتفع صهيله ضاحكاً: اتركه لعله يأخذ الحكمة من أفواه المجانين..!
ساعتها وقفت غاضباً أسألُني:
أكان ذلك القول صواباً، أم تراه عنواناً لتعاستي؟ لا أدري ؟
ها أنا اليوم، في غربة، وحزن، وقهر، وعذاب.. لكنك سعادتي.
- حقاً يا أبي..؟
- نعم يا بني هو ذاك.. كل الآلام تتلاشى في وجودك..!
- ماذا بوسعي فعله كيما ترضى عني..؟
- ثمة أشياء كثيرة, لكن, إن كنت تبحث عن الصراط المستقيم، الذي أود لك عبوره في بهاء اليقين فلا تغادر الخارطة التي تشير بوصلتها إليه، وارحل في المدى عبر ذبذبات الندى، لحظة هميله, قُبيَلَ هسهسات الصبح..!
- ما أجمل ما تقول يا أبي, وما أبلغ ذلك المعنى الخرافي الذي يومض في أبهى معانيك.. غير أني كلما فاض بي الشوق إلى كلماتك توزعتُ ودهشتي بين الفكرة وجمال المفردة وانسيابية النص, ذاهلاً أجري خلف زحام الإبداع, أتحسس نصائحك كنحلة تقفز بخفة فوق الزهور ترتشف الرحيق.
- ما دمت كذلك يا بُني، سأسدي إليك بعض النصائح التي أعدها لحظات عمر لا تدوم:
في البداية، اعلم بأنك من سأتكئ عليه حين تترنح قامتي المتهالكة بفعل الزمن المحشور بين أصابع قدمي، لذلك أقبلْ إليَّ، فكم طال انتظاري وأنا أحلق بناظري في الأفق علّي أراك فأستظل بنورك وأستنير بمرآك المشع في عتمة الرحيل المكشر في وجه ما تبقى من عمري, واسمع مني هذه الكلمات المولودة من رحم اللحظة، وكلّي ثقة بأنك ستستظل بها وتظلل أكتافهم العارية:
لتعلم يا بني أن أباك سرقته التجارة من المدرسة, وصرفته الكتابة عن التجارة, ثم ارتمى على طاحونة الشرود, فأصبح هشيماً تعافه الرياح, فإن توسدتُ التراب فارفع رأسي بشموخ مكارمك ونبل أخلاقك وبثروة العلم، التي أدعوك للغوص في أغوارها وارتشاف مَعِيْنِها الصافي.
وكيما تنال ذلك, عليك أن ترتوي من أحرفي المهرقة على هذه الصفحة العارية إلا من بقايا حياة:
إياك أن تتخلى عن أخلاق الإسلام ومبادئه .
دع عنك اللهو واخلع عباءة الطفولة - التي ما زالت ترتديك - وحلَّق في السماء التي اخترتها لك وأنا أرقب سموك من زاويتي الممتلئة بالأمل.
اجعل لك قسطاً وافراً من الثقافة العصرية الواسعة بعد أن تشد وثاق أفكارك بأصول المعتقد الصحيحة.
لا تحجب عنك تلك الصور الثقافية، العلمية، المزروعة بين أشواك الخطيئة؛ بل كن على حذر من أن يقع الشوك في عينيك فيفقأهما.
كن صادقاً مع نفسك قبل أن تبحث بين الناس عن مساحةٍ للصدق.
لا تتخلَّ عن الأصدقاء ولا ترمِ حبالك بين أيديهم.
احتفظ لنفسك ببعض الأسرار التي لا يعلمها سواك.
لا تنسَ أن تفتش بين أصدقاء أبيك عمّن تختاره ليكون مرجعاً يُمكِنُك العودة إليه حين تحاصرك الشدائد.
ازرع الأخوة يا صغيري بين إخوانك علّك تجني ثمارها حين يشتد القحط الأسري وتتهالك روابطه، فقد يعوضك الله مما حُرِمَ منه أبوك.
كن كثير البكاء حين تخلو بنفسك, وإياك أن تظهر انكسارك للآخرين، ولا تسرف في الضحك فإنه يقلّل من قيمة المرء ويحط من شأنه.
اجعل من أبيك معلماً وقدوة، وأشهر سيفك في وجه من يرميه بسوء، ولا تعبده فإنه لا يغنيك من الله شيئاً.
- قبل أن أسمعها يا أبت، كنت كغيمة تائهة في ليلٍ يشق عباب عتمته عويلُ عواصف متناطحة، فشعرت بضوءٍ يسري فيَّ وأنا اتشربها.. كم أنا فخورٌ بك وبالدروب التي رسمتها لي بوجيب عطفك ومرآة السماء.
* * *
لم يكن يعلم وهو يكتب هذه الرسالة، أنه سيجد الفرصة لإسماع ولده، ولم يكن الابن يدرك أنها ستقع في يد ولده هو الآخر..
* * *
بحث عن والده ليعيد إليه الأمانة التي ورثها عن جده، غير أنه عاد وفي يده الورقة التي سعى إلى تجديد أحرفها بعد أن نال منها الزمن وحفظها في ميراثه.
منيف الهلالي
رسالة إلى فلذة كبدي ال.. يكبرني عطفاً! 1642