يقول أحكم الحاكمين (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) المادي أو المتعلق بالحياة العلمية العقلية (اللا وعي) فالعقل - بتقديري - بيت العلم والوعي بيت الحكمة، والإنسانية تولد بالعقل وخلقها فيما بعد (يؤتي الحكمة من يشاء) أي من يطلبها.. وهناك العلماء (المسلمين) بين قوسين العالمين بالحياة ذات القوانين الرياضية والهندسية والكيميائية البحتة، لكنهم ـ في علم قوانين الحياة المعنوية المتعلق بالوعي أو الفكر الإنساني وسننه الكونية والناموسية ـ عبارة عن دراويش؛ يختزلون منهج الحياة المعنوية (الإسلام) في الصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء (الشعائر) وهكذا يفعلون كما يريد لهم أعداءهم المتآمرون, وعندما تأتي لتقنع ذلك العالم في مجال تخصصه الحكمي المتعلق بالوعي (لا العلمي المتعلق بالعقل) قائلاً: "إن الإسلام منهج حياة مقنع"، قد يهز رأسه ويعظم قولك إعجابا، وعندما تحور له العبارة قليلا؛ فتستبدل مفردة "سياسة" في العبارة الأولى بمفردة "حياة" لتصبح العبارة "إن الإسلام منهج السياسة المقنع" تجده يفزع؛ وبدلا من رفع سقف تحريك رأسه لرفع سقف الإعجاب قد يبادلك الشتائم والسباب فيهز رأسه لا ليرفعك بل لينطحك ويريك في رده بأسه ليكبتك قائلا:" أنا لا أفهم في السياسة" ليجعل نفسه في صورة "كِيْسُ قُطِن أبيض" ناسيا حقيقة أمسه الذي بدا المسلم فيها "كَيًّسٌ فطًنٌ"؛ فهو لا يعلم أو يتجاهل أن العمل في السياسة هو عين الكياسة؛ إذ هي أي السياسة علم الحياة المرتبط بالوعي أو صبغة الحياة في جوانبها (الأمنية والاقتصادية والاجتماعية) وإذا لم نصبغ هذه الجوانب الثلاثة للحياة بصبغة الإسلام المقنع أو بسياسته المقنعة فإننا سنصبغها بصبغة جاهلية القرن الواحد والعشرين العلمانية (أفحكم الجاهلية يبغون)! فنحن في سياق بعدنا عن السياسة؛ إلى العمى أقرب ومن الإبصار أبعد (ومن أحسن من الله حكما لقوم يعقلون). إنه ساعتها كأنه يقول لك أنا "درويش بامتياز" والله يحب الدراويش ويبغض العاملين في مجال السياسة؛ لأنها - كما ضحك عليه المتآمرون - نجاسة لا علاقة لها بالكياسة فضل هذا الهراء حاضر في عيًّه، وظل الغائب في وعيه.
إن السياسة الطاهرة المقنعة هي التي تشكل جوهر الإسلام وحقيقته الناصعة. لأنه ساعتها يقنعك بقوله: "أنا ما أفهم في السياسة" بمعنى أنه لم يفقه ولن يفقه جوهر الإسلام إلا في الثوب الأبيض النقي وليس بالوعي الطاهر التقي ؛ ليبدو فعلا في صورة "كيس القطن الأبيض" وليس الكيس الفطن أو ليبقى ذلك الدروييش فيما يخص ميدان الحياة في جانبها المعنوي الذي هو الأقرب والأكثر انسجاما مع الطريق الموصل إلى الآخرة والجنة. ثم يمعن في قتلك أكثر عندما يصدق مقولة أعدائه المتسخين "السياسة نجاسة" وسواد.
وأنا أريد أن أظل طاهرا أبيضا فلا تفارق صورة كيس القطن الناصع البياض مخياته العقيمة أبدا كأنه يخاف أن تقع عليه بعض النقط السوداء من السياسة؛ وهو ساعة اقتناعه بهذه المقولة الممتلئة قذارة -من قذارة مروجيها- يعترف بأن هناك "لوثة في وعيه" تزيد من عيِّه فمثله مثل الذي ينظف ظاهره ويقرأ الإسلام في الثوب النظيف القصير والعمة البيضاء المرتبة فوق رأسه واللحية السوداء الممشطة - وقد لا تمشط - فوق تعابير وجهه؛ وهو لا يعلم أن اختزال الإسلام في الثوب القصر عين التقصر وسوء تدبير في فهم حقيقة الإسلام وأنه يكمن تحت عمته وشعرة رأسه وعظمة جمجمته النظيفة "سلة من الأوساخ إلا لمعنوية".
إن الطبيب المسلم الحاذق والمهندس والكيميائي الذي يبرع ويتميز في حلول تلك المعادلات العلمية الرياضية الهندسية الكيميائية البحتة قد تجده في تخصصه الأسمى والذي من أجله وجد ليسعى - فاشل أو درويش بامتياز ليترك حل معادلات حياة الجوهر للمتسخين يزيدونها اتساخا بينما هو يتجه لربه بالصلاة والدعاء جاهلا جهلا مطبقا بحقيقة الإسلام ونواميس التغيير عبر الطريقة الإسلامية!! إنه بالضبط يجهل المسلمة الإسلامية الفقهية الشرعية التي تقول: "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب شرعا"..
دعوني هنا أستبدل مفردة "مقدس "بواجب" لأصيغ المسلمة على الشكل الآتي: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو مقدس شرعا". والسؤال لمن تهمهم المبادئ الإسلامية ولا يأبهون للمبادئ السياسة: ما هي أهم المبادئ الإسلامية بفهمك لحقيقة الإسلام ؟ هل هي الشهادة -من ألفها إلى يائها ؟ أم هي الحرية أولا ثم الشهاد ثانيا ؟ إنها - بتصور الإسلام- وقراءتي لذلك التصور "الحرية أولا ثم الشهادة ثانيا"؛ لسبب بسيط وهو أن الله في علاه رتب العقيدة على الحرية (لا إكراه في الدين)؛ فالمنطق والشرع يقول: اعطني حريتي أولا لأستطيع أن أحدد عقيدتي ثانيا بكل اقتناع وحرية كما يريد الإسلام .
والسؤال الثاني: ما هي طريقة الحصول على "الحرية" التي مرتبتها قبل العقيدة؟ هو "قيام دولة " تتمتع بالقوة والبأس الشديد والرزق الرغيد، دولة تضمن للإنسانية حرية الفكر وحرية الاعتقاد، وهذا المطلب أو المبدأ الإسلامي أو السياسي - سيان- هو السبب الرئيس في هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة للمهمة الأهم وهي التراتبية وهي مرحلة التأسيس للدولة التي تضمن حرية العقيدة للناس والتي لم تكن متاحة في مكة.
إن قيام الدولة التي تضمن حقوق الإنسانية وعلى رأس هرمها الحرية لا يستقيم عموده بدعاء شيخ في زوايا المسجد بل يقوم أو يستقيم بالعمل الدؤوب الذي تلفه الآلام والخطوب؛ (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)؛ لهذا فرض الإسلام الجهاد وجعله في ذروة سنامه ؛ وإذا كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وكانت غايته في الوقت نفسه توفير مساحة من الحرية ؛ فإن هذا يقتضي أن الحرية هي على ذروة سنام الإسلام وأنها هي حقيقته الجوهرية؛ إذ الجهاد الذي هو في الذروة لا يعدو أن يكون وسيلة لتحقيقها ؛ وإذا كان الجهاد من أرقى العبادات؛ لأن الإنسانية تخسر فيه حياتها المادية حياة الحركة؛ فإن هذا يعني أن الحرية هي الحياة الجوهرية بامتياز، فهي فعلا أرقى العبادات.
هذه هي قيمة الحرية كما يصورها لنا إسلامنا إنها تقع في ذروته لهذا اشتراها الباطل بكل ثروته؛ ليعبد الإنسانية له عبر سياسة العلمانية التي تقوم على مبدأ النجاسة أو الإكراه !! فهل فهمتم بعد أهمية السياسة وأنها مقدسة ؛ لأنها تفضي إلى قيام دولة نظمن فيها أن تكون الحاكمية لله وإذا ما كانت الحاكمية لله فإن هذا يعني "هناء الإنسانية" لأن الحاكمية بهذه الصفة تكون منزهة عن النقائص والقصور الإنساني وعن ضلالات البشر وأهوائهم ونزواتهم وساعتها ستقوم الحياة على سنة أو شريعة السماء التي هي عبارة عن درء مفاسد وجلب مصالح مع ملاحظة أن درء المفسدة فيها مقدم على جلب المصلحة.
لأختم مقالي مع ضرب المثل للتوضيح وليبق الحق بليغ وفصيح : هب أن محافظ محافظة إب جمع أعيان وحكماء المحافظة وأعطاهم كتلوج فيه إرشادات السلامة والأمن والرزق؛ وقال لهم وعُّوا كافة أبنا المحافظة بهذه الإرشادات وقولوا لهم قولا بليغا بأن الالتزام بهذه الإرشادات ووعيها وتنفيذها بحذافيرها يوفر لكم الأمن المطمئن والرزق الرغد والأخوة المؤاثرة، فقام هؤلاء بأخذ إرشادات السلامة ووضعوها خلف ظهورهم ولم يوعوا أبناء محافظتهم، تاركين المجال للعابثين والمتآمرين؛ وهم ضلوا يسبحون بحمد المحافظ ويهللون بأمنه ويؤمنون بسعة رزقه تاركين كل الأسباب المخطوطة في كتلوج الإرشادات، وبينما هم كذلك غزاهم أبناء تعز فأرقوا أمنهم وأطبقوا على رزقهم وشتتوا شملهم؛ فإذا بهم يرفعون أكفهم للمحافظ ويبسطون ألسنتهم بالدعاء يا محافظ ألست المحافظ فاحفظ أمننا وسد جوعتنا ولم شعثنا..
إن المحافظ ساعتها سيقول ما هذا الغباء وسيصم مسامعة مستهزئا بهم لا مشفقا عليهم بل قد يقول لهم انهقوا كحمير أهليه وانفروا كحُمُرٍ وحشية والهثوا كالكلاب المسعورة واعْووا كالذئاب فقد بينت لكم فصل الخطاب؛ ألم أعطيكم إرشادات السلامة فاستهترتم بها ورميتموها خلف ظهرانيكم فخسرتم وبوأتم بالندامة ادعوني وطالبوني وانزلوا دموعكم ومدامعكم فلن يتغير شيء من حالكم حتى تراجعوا تلك الإرشادات وتطبقونها كما أمليتها عليكم ففيها صمام أمانكم ورغد رزقكم وبقاء لحمتكم أو أخوتكم فإما أن تراجعوا ضمانات السلامة أو تضل عاكفة فيكم الذلة والمهانة ، ووالله لو ضللتم تدعون ما ضل تعاقب الليل والنهار لن يغير عليكم الحال ..
ولله المثل الأعلى تقدست آياته وأسماؤه وصفاته فإما أن نراجع إرشاداته أو نبوء بخيبتنا ومذلتنا طوال عمرِنا وهكذا قال عمرُنا "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله" والذي ينبغي علينا فعله أولا هو أن نفهم حقيقة الإسلام ودلالته لنطبق إرشاداته؛ وأن نفهم أنه منهج حياة لكل جوانب الإنسانية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية, فالإسلام المقنع باختصار هو السياسة، والسياسة المقنعة هي الإسلام هذه قناعاتي المبنية على قراءاتي لمقاصد الإسلام، والذين يفهمون الإسلام بغير تلك الذخائر ويختزلونه في الشعائر, فذلكم هم الدراويش الذين يقرؤون الإسلام أو يختزلونه في هز الرؤوس وليس بتحريك العقول وتنوير الوعي! فإلى مثقفي الأمة ونور وعيها، إن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني!
د.حسن شمسان
إن أخطأتُ.. فقوموني (!) 1337