فارق كبير بين تنظيم حق التظاهر ومحاصرة هذا الحق، التنظيم مقبول ومعمول به عالميًّا، أما الحصار فهو غير مقبول وهو من شيم الدول المتخلفة والديكتاتورية والعسكرية، وبما أننا نعيش في ظل انقلاب وتحت حكم عسكري فمن الطبيعي أن يكون هناك مصادرة للحريات بدأت بالانقضاض على الشرعية وخطف الرئيس المنتخب وإخفائه في مكان مجهول، وتعطيل الدستور وإلغاء مجلس الشورى المنتخب، ثم إغلاق القنوات الفضائية الرافضة للانقلاب، وعسكرة بقية وسائل الإعلام، وصولاً إلى فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة الغاشمة مع قتل وجرح واعتقال الآلاف، وبالتالي لم يكن مستغربًا من الحكم الانقلابي أن يواصل إحكام قبضته وخنقه للحريات عبر حصار التظاهرات والاعتصامات السلمية والتي كانت أحد المكتسبات الأساسية لثورة 25 يناير المجيدة.
لم ينتظر الانقلابيون قانونًا لحصار المظاهرات التي عمت ربوع مصر بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، فقد حاصرت دبابات ومدرعات الجيش والشرطة ميادين التظاهر الرئيسية سواء التحرير أو رابعة أو نهضة مصر أو القائد إبراهيم أو الأربعين وكل الميادين الرئيسية في المحافظات منعًا لوصول المتظاهرين إليها، وطاردت المتظاهرين في أماكن أخرى وأطلقت عليهم الرصاص الحي واستعانت بالبلطجية في مواجهة المتظاهرين السلميين، بحيث لم يكد يمر يوم دون وقوع إصابات أو حتى شهداء.
ولأن تريد سلطات الانقلاب منع المظاهرات من المنبع "وكله بالقانون"، فعمدت إلى تفصيل قانون للتظاهر زعمت مع أذرعها الإعلامية وأجنحتها السياسية أنه امتداد أو تطوير لمشروع قانون التظاهر الذي كانت ترعاه حكومة الدكتور هشام قنديل في عهد الرئيس مرسي، وشتان الفارق.
قبل الخوض في تفاصيل بعض النصوص يجدر التنويه إلى أن مشروع حكومة الرئيس مرسي كان يستهدف تنظيم التظاهرات التي وصلت إلى حد الاعتداء على القصر الرئاسي وخلع بابه دون أن تتحرك الأجهزة الأمنية، وقد كان المشروع نابعًا من سلطة شرعية منتخبة، تسعى لبناء مؤسسات الدولة وتكريس الممارسة الديمقراطية الصحيحة، وظل المشروع في مرحلة نقاش استمر شهورًا طويلة، بمشاركة كل الجهات المعنية وغير المعنية، المحلية والأجنبية بدعوات من مجلس الشورى أو من وزير العدل الأسبق المستشار أحمد مكي ومن بينها مكتب حقوق الإنسان بالأمم المتحدة ومنظمة هيومان "رايتس ووتش" ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وبعض المنظمات الحقوقية الأخرى إلخ.
وكان مشروع القانون يقوم في جوهره على فكرة الإخطار (م5) مع لجوء وزارة الداخلية إلى القضاء في حال اعتراضها على أية مظاهرة (م9)، بينما المشروع الحالي ترعاه سلطات الانقلاب غير الشرعية، والتي حرمت المختصين أو غيرهم من مناقشة المشروع ومن ناحية أخرى فإن هذا المشروع جوهره التقييد والمحاصرة (رغم نصه نظريًّا على الإخطار م 3) إذ جعل العصمة بيد وزارة الداخلية ومديرياتها في المحافظات لتحدد ما هو مقبول أو غير مقبول من المظاهرات والهتافات والشعارات وخطوط السير وأعداد المشاركين، وبطبيعة الحال ستكون غالبية المظاهرات إن لم يكن جميعها مرفوضة لأي سبب من الأسباب الكثيرة التي تضمنها مشروع القانون، وعلى المتضرر وهم الداعون للمظاهرة وفقًا لهذا المشروع أن يلجئوا هم للقضاء للطعن على قرار وزارة الداخلية وهو وضع يشبه ما كان ساريًا في عهد المخلوع مبارك، إذ تنص المادة الخامسة من المشروع على أنه "يجوز لجهة الإدارة منع الاجتماع إذا رأت أن من شأنه أن يترتب عليه اضطراب في النظام أو الأمن العام، بسبب الغاية منه أو بسبب ظروف الزمان والمكان الملابسة له أو أي سبب خطير غير ذلك..
ويجوز لمنظمي الاجتماع أن يتظلموا من أمر المنع إلى المحكمة المختصة لتفصل فيه فورًا على وجه الاستعجال" وحتى هذا الفصل المستعجل من المحكمة لم يحدد توقيتًا كأن يكون الفصل قبل الموعد المحدد لبدء المظاهرة أو الاجتماع مثلاً ما يؤكد سوء النية في المنع سواء أمنيًّا أو قضائيًّا.
في التفاصيل أيضًا يمنع مشروع القانون عقد الاجتماعات في أماكن العبادة أو المدارس أو غيرها من محال الحكومة إلا إذا كانت المحاضرة أو المناقشة التي يعقد الاجتماع لأجلها تتعلق بغاية أو عرض مما خصصت له تلك الأماكن والمحال (م 6)، والغرض هنا مسألة نسبية فما يعده البعض ندوة دينية ستعتبره الداخلية ندوة سياسية، كما أن المنع لن يطبق بمعيار واحد على المساجد والكنائس، كما سيتم احتساب الساحات المجاورة للمساجد كجزء من دور العبادة المشمولة بالمنع، والغريب أن يشمل المنع أيضًا المدارس التي تتساوى في مركزها القانوني مع الجامعات التي تجاهلها المشروع، ومن الواضح أن هذا المنع جاء بعد ثورة المدارس بكل مراحلها منذ مطلع العام الدراسي وحتى الآن.
وفقًا للمادة السابعة يمنع كل خطاب يخالف النظام العام أو الآداب أو يشمل على تحريض على الجرائم، وهذا كلام عام مفتوح يقبل أي تفسير فأي هتاف يمكن أن تفسره وزارة الداخلية بأنه خروج على النظام العام والآداب أو أن يشمل تحريضًا على جرائم ويكون ذلك مبررًا لفض المظاهرة بالقوة، كما تبيح المادة 8 لرجال الشرطة طلب حل الاجتماع "إذا ألقيت فيه خطب أو حدث صياح أو أنشدت أناشيد تتضمن الدعوة إلى الفتنة أو وقعت فيه أعمال أخرى تشكل جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات أو غيره من القوانين، أو إذا وقع اضطراب شديد" وهي أمور فضفاضة ونسبية أيضًا تبيح للشرطة فض المظاهرة أو الاجتماع بدعوى إلقاء كلمات أو هتافات أو أناشيد تدعو للفتنة، فكل ما هو ضد السلطة الحاكم سيعتبر مثيرًا للفتنة، رغم أن المظاهرات بطبيعتها هي أداة للتعبير والاحتجاج السلمي على سياسات السلطة أو الإدارة.
ورغم أن مشروع القانون قائم في بنيانه العام على فكرة التقييد، إلا أن واضعيه يخشون أن تخونهم الصياغات فيضعون نصًّا مقيدًا لكل التقييدات السابقة في المادة 11 ونصها "لا يترتب على أي نص من نصوص هذا القانون تقييد ما للبوليس من الحق في تفريق كل احتشاد أو تجمهر من شأنه أن يجعل الأمن العام في خطر أو تقييد حقه في تأمين حرية المرور في الطريق والميادين العامة، مع عدم الإخلال بأي عقوبة أخرى منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر". يا لها من عقلية لا تريد أن تترك منفذًا للتعبير السلمي، فأي مظاهرة يمكن اعتبارها خطرًا على الأمن العام، وعلى حرية المرور!!!
المشروع مليء أيضًا بالنصوص التي تقيد حركة الاعتصامات والإضرابات العمالية في المصانع والشركات، كما يتضمن عقوبات قاسية لا تتناسب مع طبيعة المخالفات، لكن الأهم من كل ذلك هو أن المشروع يستهدف فعلاً منع المظاهرات لا تنظيمها، لكن شعب 25 يناير الذي كسر كل الحواجز والقيود وانتزع لنفسه حق التظاهر والاعتصام لن يرضخ لهذا القانون أو أي قانون آخر يقيد حريته.
قطب العربي
الانقلاب وقمع التظاهر 1220