بعيداً عن العداء للقضاء أو الإشادة به فإن القضاء المصري يمر بأصعب لحظات تاريخه على الإطلاق، ودون مبالغة فلم يعد أي حكم قضائي يمر بدون تعليق قاس أو سافر أو معاد أو مفتر أو على أقل تقدير متعجب من أن ينتهي القضاء إلى هذه النتيجة. ويبدو الأمر محصلة لمجموعة كبيرة من العوامل التي تضافرت وتآزرت في أكثر من لحظة من لحظات تاريخية متعاقبة ومتدافعة لتحكم على القضاء بمثل هذا الجو الخانق الذي لا يمكن لأي قاض أن يستمر معه في أداء وظيفته على هذا النحو. وعلى سبيل المثال السريع والمستوحى من آخر حدث حظي بالتغطية الصحفية فإن حكم محكمة الجنح على ابنة أحد المرشحين الرئاسيين بثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ، بدأ سلسلة من التخمين وضرب الودع حول دلالة وقف التنفيذ وحول دلالة صدور الحكم في اليوم التالي لتصريح والدها بما لا يتماشى مع طموحات قيادة الانقلاب. وقبل هذا فإن قضية هذه السيدة في عهد الرئيس مرسي كانت (بفعل فاعلين ليسوا من رجال القضاء بالطبع) أرضا مستزرعة لكل ما يمكن أن يخوض في مكانة القضاء وسمعته، بدءا من الحديث عن الإفراج عنها بعد ساعات، وعن مبيتها في القسم لمدة ساعات، وعن تجدد حبسها مع تجدد البلاغات الجديدة بعد الإفراج عنها في مجموعة من القضايا الأولى، وعن حجم الكفالة التي دفعتها مرة. وامتد الخوض ليشمل طبيعة الاتهام ومدى ضرورة الحكم فيه، وعن الشق المستعجل في القضية (أو القضايا) التي تعددت بتعدد الشاكين الذين هم في نظر القانون منصوب عليهم أو ضحايا أو مغرر بهم أو طامعون شاركوا في تشجيع المتهمة على سلوك هذا المسلك المتكرر. ومن الطريف أنه في ظل العصر الذي انفجرت فيه المعلومات من وسائل ووسائط متعددة أصبح كثير من الشباب أو الجماهير على علم بكثير من الحقائق التي يصعب أن يلم بها أي قاض يتولى القضية. ووصل الأمر في معلومات الشباب أنهم استحضروا من أحاديث مبكرة لابنة المرشح الرئاسي في الصحافة والتلفزيون ما يدل دلالة ملحة على حلمها المتأصل بالثراء السريع وبحثها عن سبيل سريع إليه. وكأن هؤلاء يقدمون ما تعجز النيابة عن تقديمه من إثبات ودلائل على ما يسمى في القانون سبق الإصرار والترصد، بل إن الوسائط المعرفية الجديدة بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث أصبحت قادرة على تزويد رجل الشارع بما يجعل موقفه المعرفي في أي قضية أوفى وأوسع وأعرض من أي موقف تقليدي أو كلاسيكي تصل إليه النيابة العامة في مصر، وذلك بحكم قصور إمكاناتها عن إدراك ما تدركه وسائط عصر المعلومات. ومن ثم فقد تطور الأمر على أيدي الإعلاميين إلى وضع أصبح معه الحديث التقليدي عن أن القضاة قضاة أوراق وإثباتات مدعاة للشفقة على جهاز العدالة بأكثر منه سيفا ترفعه أجهزة العدالة في وجه المنتقدين للنتائج التي تصل إليها. ولما كانت القاعدة الاجتماعية التي تقول بأن الحكم عنوان الحقيقة بدأت تعاني من مصاعب في تصديقها في عصر الانفجار المعرفي الذي يعيشه المجتمع المصري، فقد أصبح الأمر في حاجة إلى إعادة نظر وإعادة ترتيب كبيرتين، بحيث يصير الحكم (عن حق وبحق) عنوانا للحقيقة لا لجزء منها فحسب. وهكذا فقد أصبح واضحا وضوح الشمس جوهر المشكلة الأولى التي تواجه الأداء القضائي في مصر المعاصرة، وهو جوهر مرتبط في أصله وفصله بالمعرفة، وليس في حديثي عن هذا التشخيص غير المسبوق نوع من المبالغة ولا التزيد. وليس مرفق القضاء وحده هو الذي عانى من مثل هذه الأزمة في محطة من محطات مساره، إذ يكفي أن أشير في هذا المقام إلى الحقيقة التي يتداولها البسطاء من أن قراءة صحيفة يومية من صحف أيامنا المعاصرة تستدعي من العلم ما لم يكن عند أكبر الفلاسفة في العصور الوسطى، وهو ابن سينا. والاستدعاء هنا يشمل المعنيين اللذين على شاطئي المعرفة، الأول وهو أنها تستلزم معرفة بالمفردات والمعاني والمفاهيم (وكل ما يرتبط بالتأهيل للفهم)، والثاني أن هذه القراءة تجلب من المعرفة والفهم والإدراك ما لم يكن متاحا لأكبر الفلاسفة في العصور الوسطى. وقد يكون في هذا المثل البسيط بعض المبالغة في التشبيه وبخاصة فيما يتعلق بشاطئي المعرفة، لكن جوهر المثل يبقى مفيدا وحاضرا بدلالته الواضحة على حجم الانفجار المعرفي الذي يهز أي برج عاجي يعيش فيه صاحب قانون أو صاحب فكر أو صاحبهما معا. وما لم ينتبه المشرعون والموجهون والساسة والتنفيذيون والحزبيون والقضاة أنفسهم إلى هذا الجوهر المتخفي في أزمة القضاء المصري المعاصر فسيظلون يتحدثون عن معان مجرة غير قابلة للتجريد. بمعنى أنهم يظنون إمكان وجود الفكرة مجردة بينما الفكرة أصبحت مختلطة بالحياة على نحو ما تختلط اللحوم والمقبلات في الكفتة أو الكبيبة، حتى إنه يستحيل عمليا ومنطقيا أن تفكر في إعادة فصل اللحم عن الكفتة أو الكبيبة. ومع أن أي تحليل كيميائي قد يكفل مثل هذا الفصل، فإن الناتج لن يكون هو الفكرة المجردة وإنما سيكون مسحوق هذه الفكرة أو مطحونها أو معجونها، ذلك أن اللحم قد مر بمراحل تمثيلية غذائية أو آلية أو يدوية أفقدته "التجريد" كما أفقدته "التجسيد" على حد سواء. ولهذا السبب الذي ينطق به هذا المثل الواضح في دلالاته تبدو بعض أحكام القضاء المعاصر أقرب إلى أي شيء آخر منها إلى أحكام القضاء، رغم ما قد يتمثل فيها من منطقية غير مكتملة بالطبع. وخذ على سبيل المثال ما تحكم به محكمة القضاء الإداري من إلغاء عقود بيع كانت الحكومة فيها هي البائع منذ عشر سنوات، وتلزم الحكومة بالتنفيذ بينما هذا الحكم الصوري علي ما يبدو من قانونيته ومشروعيته لا يمكن وصفه إداريا وقانونيا إلا بكونه غير مجد لأي طرف من الأطراف: لا الحكومة ولا للعمال السابقين ولا اللاحقين ولا للاستثمار. وتقود طرافة الحياة إلى أن يطالب المشتري نفسه بتنفيذ الحكم واسترداد أمواله، فإذا الحكومات واحدة بعد أخرى عاجزة عن أن تفي بما يمكنها من تنفيذ الحكم، وغير راغبة في استعادة الشركة من الأساس فهي شركة خاسرة ومخسرة. وفي مقابل هذا فإن الشركة الرابحة التي كانت منجم ذهب لأولاد كبار الصحفيين والوزراء بيعت بالطريقة نفسها ورفعت قضية فسخ عقد بيعها أيضا، لكن منجم الذهب يوفر لسارقيه ما يمكنهم من أن يحتفظوا به من خلال إجراءات قضائية قابلة للتطويل والمد والمط. وهكذا تقود النزاعات التي يعرف كل الناس أبعادها إلى أن يزداد الغني (الانتهازي) غنى وانتهازا وإلى أن يدفع المستثمر الهندي (وهي جنسية فعلية للمستثمر وليست صفة من قبل المزاح) ثمن تصديقه لدعاوى الحكومة المصرية حول اعتزامها الجدية في الاستثمار والخصخصة وإدارة الأصول. هكذا يباع مصنع ذو أراض مربحة لأفاقين محترفين يحميهم آباؤهم النافذون ليصبح هؤلاء المشترون مليارديرات في لمح البصر ولا تفسخ صفقتهم، ويباع مصنع مجاور لمستثمر فتثار في وجهه المتاعب والمصاعب وتطلب منه الرشى المليونية والإكراميات، وبعد عشر سنوات يفسخ عقد البيع ليجلب له الإفلاس السريع لأنه هندي آمن بمصر فاستحق العقاب. وتمضي الأمور الدرامية على صعيد مواز ينتقل بين رؤساء الوزارة من الأقدم للأحدث، ويصل الأمر إلى حد الحكم بالحبس على رئيس وزراء ثالث، لأن سلفه أي الرئيس الثاني لم ينفذ حكم رد المصنع لعدم رغبة الحكومة وقدرتها، ولأن سلفهما أي الرئيس الأول للوزراء هو الذي باع. فالأول ارتشى من المال، والثاني ارتوى من الحديث عن محاربة الفساد، والثالث اكتوى بفساد الأول وبخبل الثاني. ومن المفارقات أن يقرأ الناس الحكم بحبس رئيس الوزراء الثالث يوم وقع الانقلاب، فأصبح الحكم جاهزا ليجعل رئيس الوزراء وهو الشاب الغلبان متهما في قضية جنائية تكفل له السجن مباشرة، لكن الله سلم، فقد تولته تلك السفيرة العظيمة! بما يمكن وصفه بأنها حمته، وذلك على نحو ما رشحته من قبل لأن يصبح الرجل الأول لأنه يقول نعم ولا يقول لا.
الجزيرة
محمد الجوادي
ثلاثية المعرفة والقضاء والسياسة في مصر 1688