في أواخر السبعينيات كان معسكر "أبو يوسف" (بالعجمي- الإسكندرية) هو المحضن التربوي الذي أنتج "رجال دعوة" يفهمون حقيقة إسلامهم ومعنى استعادة المجتمع لنور هذا الإسلام، وقد أدوا ما استطاعوا من المهمة الثقيلة، وبعد أقل من أربعة عقود كان معسكر "رابعة والنهضة" محضن "مواجهة الاستبداد العسكري" الذي أعدَّ رجالَ حقٍّ عزموا على ألا يُسرق الوطن مرةً أخرى بيد أذناب (الاستعمار الجديد). وهم يدركون أن ثورات الشعوب الإسلامية قادتها الوطنية المتشبعة بالإسلام وسرقها أذناب (الاستعمار القديم)، لن ينسوا الجزائر التي عرفت "عبد الحميد بن باديس"، وليبيا التي عرفت "عمر المختار"، ومصر التي قاد "الأزهر" تحررها، ولم ينسوا تحرير "القدس" ولا دحر" التتار" و"الصليبيين" تحت راية الإسلام. كل هذه الانتصارات لم يكن فيها ليبرالية ولا اشتراكية، ورغم أننا أفسحنا صدورنا لكل الأفكار والمذاهب بكل رضا- ومازلنا نفسح- إلا أن يقيننا يجزم أنه لا قيامَ لأوطاننا إلا تحت راية الإسلام بحضنه الوارف وأفقه الواسع. ونحن نرى أن "الحفنة العلمانية "بمصر لم "يستوِ" معنى الجهاد في قلوبها من أجل فكرتهم، وأن الثمانية عشر يومًا "لثورة يناير" لم تكن كافيةً لكي يحملوا بها صفات المناضلين، لذا فلسنا مخدوعين- ولن ننخدع- بأن خلافهم الحالي معنا وانصياعهم لحكم العسكر سببه أخطاء "الإخوان" في "محمد محمود" و"العلاقة مع الجيش" وغيرها، أو بزعم انتظار "خارطة المستقبل" فإن أداها العسكر فبها ونعمت، وإن لم يفوا بعهودهم فسنملأ الميادين ضدهم (هكذا يقولون). وحججهم مدحوضة لأن أصحاب المبادئ لا يهمهم ألا تحقيق مبادئهم، سواء خالفهم "الإخوان"-بزعمهم- أو لم يخالفوهم، لأن مصالح الشعب ليست لعبةً بيد كل هاوٍ يخطفها حينًا ليبدأ مرحلة انتقالية فإذا استقوى آخر خطفها ليبدأ فشلاً جديدًا، ولو كان لدى العلمانية المصرية صِدْقية لثاروا ضد تبرئة "مبارك"، وضد عسكرة الدستور وتحصين "الفريق"، وانتهاك الحريات وقتل الصحفيين وطمس الحقيقة، ولثاروا ضد مشروع قانون التظاهر، وحتى لو كانت فعالياتهم بعيدًا عن الميادين التي يقود الإسلاميون فيها الثورة. الحقيقة أنهم خائفون، وقد قالها الشاب الهمام "محمد عباس" حين سأل أصدقاءه الثوار: ماذا سيفعلون؟ وأعلن الرجل بأنهم صارحوه بخوفهم حيث بدأ العسكر إجراءات مواجهة التظاهر بالرصاص الحي!!. هؤلاء صادقون مع أنفسهم أما الذين يختبئون وراء جدران خرسانية من المزاعم الثورية، فهم قد أسقطوا أنفسهم من ميادين الشرف، وكلٌ سيعرف قدره اليوم. كذلك لن تخدعنا قشرة الجفاء من بعض أبناء شعبنا فيتسرب اليأس إلى.. قلوبنا. فلقد رأينا شعبنا متقلب المزاج مع مَن يقدر على التواصل والتأثير فيه، ولكنه يسكن في النهاية في حضن الدين. لقد كانت الجماهير "في يومٍ من الأيام" تحفظ "الميثاق"، وشعارات "عبد الناصر" ثم مضى زمنه، وجاء زمن "المحلاوي" و"كشك"، والذي انتشرت شرائطهما بين العامة؛ وهم يهدمون معبد الاستبداد الساداتي بأرشق الكلمات وأقربها، ثم تحول الشعب فجأةً لشرائط "أحمد عدوية" وصارت أغانيه على ألسنة الكافة، ثم جاء "وجدي غنيم" الذي أعمل "كرباج" السخرية من السلوكيات المنافية للإسلام فصارت أشرطته تُباع على كل الأرصفة والأكشاك ثم أتى زمان الدعاة المشايخ والشباب والذين تقدمهم "عمرو خالد" الذي ارتقى بالحس الإسلامي، وكان له قبول جعل كلمته أمرًا على قلوب محبيه، ثم جاء زمان "الثورة" الذي جعل الثوار الشباب هم نجوم المجتمع، ولكن سرعان ما أتى زمن أغاني ما يُسمى "المهرجانات" وأفلام "البلطجية والعاهرات" التي أصبحت بديلاً معبرًا عن اختلاط الأفهام وتخبط العقول؛ وذلك حين يرى الناس الكلام ونقيضه أمامهم بنفس القوة، فهو يعلم أصدقاءه وأقرباءه "الإخوان" ويتخذهم قدوته ويربي أبناءه ليكونوا أمثالهم، وهو يلعنهم إذا لعنهم "عمرو ولميس وخيري!!". وهم الشهداء وهم القتلة!!. هم الظالم وهم المظلوم!! هم الحق وهم الباطل!! هذا أوان بروز رجال المرحلة الذين يعدلون المائل ويصوبون المسار، ولن يكون منهم نجم، فأكثرهم نجومية هم شهداؤهم. ولن يكون منهم صاحب منطق حلو ولسان معسول، فقد مضى وقت الكلام ونصبت حلبة الزمن ليتنافس العاملون وأهل التضحيات. ولن يكون صاحب حلول وسط ولا مقاربات إنقاذية.. فقد دخلنا (زمان الحسم).. وطال الوقت أم قصر فالجهاد مستمر وستكون نهايته شاطئ الأمان الذي بحثت عنه سفينة الوطن المرهقة. نقولها من جديد، لقد كشف الله ستر أهل الفساد في كل المؤسسات، ولم يعد بمقدور العسكر إخفاء فضائحهم، ولن يكون بمقدور قضاة الانقلاب إنقاذ سمعتهم، ولن يكون بمقدور مدعي الثورة ستر عوراتهم. هذه مرحلة "جيل النصر".. جيل البناء، الجيل المُعلم الذي علمه الله واختصر له المسافات والزمن، وألهمه صوفية حب الوطن، وفتح عينيه على حقائق لم يكن يعرف بعضها إلا العلماء المدققون. ليس ما قلته كلام الإسلاميين فقط؛ ولكنه جاء بعد ما طوَّفت بالصحافة الأمريكية والأوروبية التي تستهدف التقييم الحقيقي للمواقف، وقد يكون يسيرًا أن نشير إلى كلام "روبرت فيسك" و"نعام تشومسكي" و"سيمون هيرش"، بل و"إريك تريجر" كاتب معهد واشنطن المعروف بميوله الصهيونية، ناهيك عن المراكز الاستراتيجية الكبرى مثل "مركز العلاقات الخارجية" و"معهد ديل كارنيجي" و"معهد ويلسون" وغيرها كثير، والتي أقرت بأن الإسلاميين مرشحون للعودة بقوة، وأنهم قد نجحوا في تقديم بدايات تجربة ديمقراطية واقتصادية ناجحة، وأن التآمر عليهم كان واضحًا من البداية بقيادة "أمريكا" التي تخشى من نجاح الإسلاميين بالوطن العربي، كما تخشى من نجاح القيادات المستقلة "بأمريكا اللاتينية". وأخيرًا.. فلم نحس في حياتنا فترة زال فيها الالتباس عن الأعين مثل هذه الفترة، رغم نجاح إعلام العسكر في التلبيس على العامة، ولكن هذا يواجهه الثبات والإصرار الذي سيعيد الشعب إلى معرفة الحقائق وزوال الغشاوة. والكل بانتظاركم يا شبابنا، ومصير أمتكم معلق بثباتكم وإصراركم وإبداعكم. أنتم الفرج القريب والنصر المبين. هذه حقائق سطرتها دموع فرح أبناء جيلنا وهم يشاهدون النبتة المصرية الجديدة وقد استقامت صلبة عتيدة، مقاتلة عنيدة. تسألني عن البشريات.. وهل بشريات أكثر من هذا؟!
م. محمد كمال
لن ننخدع..! 1205