نعم! قف أيها التاريخ وسجل بأحرف من نورك الوضاء، أو بحروف من نارك المحرقة كل المواقف غثها وسمينها، رفيعها وسافلها، شريفها وما انحط منها، فلقد عودتنا أيها التاريخ أن لديك سجلاً حافلاً أحدهما باللعنات بصفحاته السود والآخر بصالح الدعوات، وأجمل الشهادات وبأنصع الصفحات، حدثنا وارفع الصوت عاليا ليسمع أولئك الذين نكبت بهم مصر الكنانة، وظنوا أنهم بمأمن من غضبة الشعب ولعنة التاريخ وما علموا أن كليهما لهما بالمرصاد فالشعب إرادته لا يمكن لأحد أن يقف أمامها، فمن ذا الذي وقف في وجه السيول العارمة، والتأريخ الشاهد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها على أصحابها ليجزيهم الله في الدنيا والآخرة بما علموا أحسنوا أو أساءوا. في مصر نشاهد اليوم فسطاطين لا ثالث لهما، فسطاط رضي بالذل والهوان، وآخر مازال متشبثا على جمر اللظى, صامدا لم يرض أن يعيش في الهوامش التي ارتضاها الآخرون، واستعذبوا العيش في ظلالها. مشكلة الفسطاط الأول أنه لم يعد لديه فارق في أن يعيش ذليلاً مهاناً على أن يعيش عزيزاً شامخاً، لماذا؟ لأنه استمرأ مثل هذه الحياة العقيمة فهو لا يتحرج بأن يكون عبداً لا أقول لرجل بل إنه لا يقبل أن يكون عبدا لبيادة قديمة مهترئة لجندي عتيق مرت عليه السنوات وما زال يلبس هذه البيادة القديمة، وصنف آخر مشكلته مع هؤلاء أنه يدفع ثمنا لعزتهما معا وشرفهما سويا، عشقوا الشهادة من أجل الحرية والكرامة، واستأنسوا بالنضال كمنطلق نحو العيش الكريم، وركنوا إلى جدار ساند وحصن حصين اتخذوه مرتكزاً لروح الحياة العزيزة من حولهم.. إن بين رفعة الشهيد وبيادة العبيد مسافتين بعيدة ومختصرة من العز والذل ومن الشموخ والهوان، فمن اعتز بالشهادة شمخ، ومن تنكب العز ذل وانبطح وعاش ذليلا مهانا يتحمل الصعاب نظرا لثقل البيادة التي أثقلت كاهله، ونظراً لحملها الشاق على ظهره إن بين العز والذل ضريبة لا بد وأن تدفع ثمنا للموقفين، ولن نوجه حديثنا لمن ارتضوا البيادة وجهة لأنفسهم، وقبلة لتوجههم، فهؤلاء قوم كما قال عنهم الثلايا قوم إذا ضرب الحذاء بخدهم * صاح الحذاء بأي ذنب أضرب والحديث معهم أو عنهم لا طائل منه لأنهم باختصار شديد خارج التاريخ، ولهم منه وافر اللعنات. وما يطيب لي في هذا المقام هو أن أوجه حديثي للرجال في زمن عز فيه الرجال، أول هؤلاء الرجال الذين تنحني قاماتنا تبجيلا لهم، وتتواضع هاماتنا أمامهم، وأمام بطولة صنيعهم ونضالهم فأقول كما قال الشاعر لكل شهيد روى ارض وطنه بدمه الزاكي..
يا شهيداً نسج المجد وساماً * وسقانا من كؤوس العز جاما
وتراءى في سماء النصر برقاً * راحلاً يلقي على الدنيا السلاما
وتهادى في دروب الموت يسقي * روضة العزم جهاداً وانتقاما
ثغرك الباسم لحنا من إباءٍ * صاغ معنى الموت حباً وغراما
وأرانا كيف أن الدمّ يروي * قصة الأمجاد ناراً وضراما
يا فدا جثمانك الطاهر شعبٌ * أسلم الباغي كما يهوي الزمام
وجهك الوضاء ما زال بريئاً * عاشقاً قد ذاق بالعشق الحمام
عاشقاً قد تيّم الروحَ فداءً * وبغير الموت لم يرضى وساما
عُمَري العزم لاحت في رؤاه * همةٌ تسمو وأفعالاً تسامى
لم يرى الدنيا رياضاً من نعيم * وحنان يرتضي فيها المقام
ومضى للخلد تحدوه خطاه * فيها تحلو منادمة الندامى
إن على الدموع في هذا الموضع أن تحار وتأبى أن تسقط قطراتها وتأبى أن تحزن وتبكي الشهداء ترفض الحزن على من انعم الله عليم بالشهادة ولكنها تدمع وتحزن على فراق جنودنا البواسل زهورا في ريعان عطائها تذبل ولكن تغرس جذورها في جنات النعيم وقلوب زملائهم من الغاضبين وفي نفوس المصريين. أما المرجفون في المدينة، والمثبطين لعزائم الشباب ومعشر المنتفضين فلن يسامحهم الشعب نقول ذلك، وكذلك يقول التاريخ أن من وقف ضد إرادة الشعوب لن يسامحوا ولن يغفر مثل هذه الوقفات الهزلية التي لن يبوء بها أحد غير أصحابها الذين ارتضوا لأنفسهم حياة الدون فتبا لهم من معشر.
مروان المخلافي
بين رفعة الشهيد وبيادة العبيد!! قف أيها التاريخ 1287