(ومن دمنا إلى دمنا حدود الأرض).. محمود درويش يخطئ من يعتقد أن تقسيم الوطن إلى إقليمين أو ثلاثة أو خمسة ـ يزيد أو ينقص ـ يحل مشكلة وطن ويعالج قضية وينصف مظاليم ويعبّر عن توزيع عادل للثروة والسلطة، ويخطئ من يعتقد أن إقصاء الآخر هو الحل، والتفرد هو الذي يجلب المنفعة... المشكلة الكبرى هي في الإنسان وليس الجغرافيا، الإنسان المتشظي, المصاب بشروخات نفسية، الجاهز لعداء الآخر ومجاهرته بالمعصية، المشكلة في الروح اللا منتمية, الغير مهذبة، التي تحاول أن تنال من أقرب الناس إليها وتنتقم لنفسها من نفسها.. المشكلة أن الذات اليمنية مجزأة ومفتتة، والكيانات المتعددة هي الذات التي لم تتجاوز الاحتقانات وتزيد في تكثيفها حد الانفجار.. المشكلة في حالة التوجس والريبة من الآخر وفي البحث عن تداعيات ماضوية وجلبها لتكون فاعلة في حاضرنا. هكذا أرى أن البحث في اللا مجدي والاستنفار له والحوار فيه ومن خلاله، هو الذي يقدم الجغرافيا على الإنسان، والمادة على الروح، ليصير كل شيء جامداً بلا طعم, بلا عاطفة, بلا حب وعلاقات تحترم, وإخلاص وتفاني من أجل الكل ينعم ويستقر, لذلك نتوه كثيراً حين نعالج مانحن فيه بمعزل عن الإنسان الذي يجب أن يستوعب أهمية التعايش الخلاق، والتعامل بروح وطنية تقدس البشري وليس الجغرافيا وتنطلق من قيم خلاقة ترفض كل أشكال المناطقية والعنصرية والطائفية وتنتمي لفضاء إنساني يكون فيه الآخر ضرورة للوجود والتواجد وليس إقصاء ونظرة دونية ومصادرة حقوق وحريات وتعامل بغضاء ومشاحنة حتى إذا ضاقت الأرض بما رحبت ذهبنا نتقصى حلولاً بمعزل عما هو إنساني يقيم صلة مودة وقربى مع أخيه وابن عمه وصاحبه وبنيه. وإذا سنبقى في ذات المشكلة ندور، حينما نبحث عن حلول خارج عنا، وحينما نستقي العدالة من التقسيم، والنظرة الغير موضوعية لمعنى الأرض، وكأنها ميراث يحق لقوم دون آخرين، وكل ذلك لا يجلب غير المزيد من النكد والمعاناة.. هنا فقط تزداد التعقيدات وتزداد الأرض ابتعاداً عن الإنسان وتكون عامل فرقة وشتات وليس قربى وعلاقات أخوة وتعاون وتكافل.. ومهما بحث المتحاورون عن مخارج دونما إيمان بالإنسان وأهمية أن يكون العنصر الأول في الاستقرار, فإن كل الذي يقع عليه المتحاورون ليس سوى قبض ريح, فالإنسان بيت القصيد هو الذي ينبغي أن يكون, هو الذي يجب أن يجسد أنبل ما فيه من قيم الفضيلة، وأن يتنازل عن الأنانية ويفتح أفقا واسعا للتعايش، فالأرض تنجب أنبل أبنائها الطيبين حينما ينتمون لها في عيش مشترك، ويقيمون علاقة اتصال وثيق مع المستقبل. بدون ذلك الوطن متاهة، والقادم ينذر ببؤس شديد، والكل خاسر لامحالة, فهل يتجاوز الكل مسألة تفتيت الجغرافيا إلى حيث وحدة الوجود عبر التواجد الخلاق؟ هل يدرك أمثال هؤلاء أن الأرض لا وصي عليها، وأنها ليست ملكية خاصة، ولا تتبع أحد من المتحاورين والمتقاتلين؟ وأن خلل التقسيم هو مرض في القلب والعقل، وتعبير عن هزيمة ذات وشروخات نفسية ووقوع في إحباط وانتقام غير معلن, سببه العجز عن التعامل البشري.. هل يعقل المتحاورون معنى قيم الحق والخير والجمال بعيداً عن التعصب والعنتريات والبروز بجلافة وغلظة وانتهاز فرص التحدي للبحث عن غلبة وليس التقاء وتنوع.. بالتأكيد لابد من تعقل كل ذلك، فالوطن يحتاج إلينا أصحاء متعافين لا ينتقص أحد أحداً, الوطن يريد تنمية واستقرارا، وهما الكفيلان بتجاوز عتبات التربص والقهر والمكايدة وانتهاز فرص الخبث للنيل من الإنساني وإردائه قتيلا, والوطن لا يريد احتشاد أطقم ومرافقين وعسكرة حياة، ولا يريد استقواء الآخر على الآخر بالمال أو القبيلة أو المنصب، فكل ذلك لا يقدم على المدى الرافض للاستقواء غير رد فعل يخسر فيها من يتعالى ولا يفقه معنى الحرية والتعايش المسئول، واحترام سيادة النظام والقانون، وفتح مجالات التعدد والتنوع برؤية واعية وحصيفة ترفض هزال القول وما يمس الوطن في مستقبله وحياة أبنائه. وإذاً نحن نريد الإنسان الذي يحدد بالضبط أين يقف؟ وكيف يتكامل مع الآخر؟ نريد الحرية بضوابطها الأخلاقية، نريد سيادة نظام وقانون يكفل للجميع حقوق ووجبات، نريد أن لا نرى عنجهيات، وبنادق، وأطقم، وحلبات مصارعة، ومصارعة ثيران, فالوطن أجل من التطاحن وأكبر من فهم ضيق للأرض وتقسيمها, العدل فقط هو البديل الحقيقي عن كل حوار ناجح أو راسب، ومالم تكن هناك نوايا صادقة في احترام الآخر والتعامل بندية معه فلن يستقيم للوطن حاله وسنظل نحفر في الجدار حتى تدمى أظافرنا.
محمد علي اللوزي
المشكلة الكبرى هي في الإنسان وليس الجغرافيا 1444