أعرف مسبقاً أنني قد أتهم بأنني مطبل للأشخاص، ومعظّم للأفراد، والبعض قد يتهمني بالعنصرية حين أكتب عن مثل هذه الشخصية التي بين أيدينا في مثل هذا الوقت الحسّاس الذي أظهرت فيه هذه الشخصية كثيراً من المواقف التي قد نتفق كما قد نختلف مع الغير على رفعتها، لكن ما سأكون دقيقاً فيه هو أنني سأثبت ما قيل عن هذا الرجل، وسأتحدث عن واقعه ومواقفه دون أن أضيف أو أضفي عليها أياً من الرتوش..
ما يستوقفنا عند الحديث عن أردوجان هو عيون الصحافة والإعلان التي أصبحت كثيراً ما تسلط الأضواء على هذه الشخصية, فقد وصفته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية بأنه "سلطان العالم الإسلامي"، واحتل في السياق ذاته المركز الأول في استطلاع للرأي أجرته "نيويورك تايمز" الأمريكية لاختيار "شخصية العام، واختاره موقع شبكة "C.N.N"باللغة العربية، رجل عام 2010، وذلك في تصويت قام به زوار الموقع، حيث اعتبرت النتيجة بأنها تعكس المزاج العام للشارع العربي، وحصل في السياق ذاته على 74 % من مجمل الأصوات في الانتخابات الأخيرة، نتيجة لبروز الدور التركي في المنطقة بشكل كبير في العام الماضي، حيث دشن أردوجان حقبة جديدة في السياسة التركية بعد عقود من "شبه التجاهل" للمنطقة العربية.
في حياة أردوجان الكثير من الدروس التي يجب التوقف عندها ملياً لمعرفة جوانب الفذية عند هذا الرجل فالناس وإن عرفوه من على وسائل الإعلام إلا أن هناك الكثير من الأمور التي تحتاج إلى تسليط, المجهر عليها, منها مرحلة النشأة لأردوجان، فلقد ولد كعظماء التاريخ لأسرة فقيرة في حي قاسم باشا أفقر أحياء إسطنبول، وتلقي تعليمه الابتدائي في مدرسة حيه الشعبي مع أبناء حارته، ويحكى في هذه الفترة أن مدرس التربية الدينية سأل الطلاب عمن يستطيع أداء الصلاة في الفصل ليتسنى للطلاب أن يتعلموا منه، رفع رجب يده ولما قام ناوله المدرس صحيفة ليصلي عليها، فما كان من رجب إلا أن رفض أن يصلي عليها لما فيها من صور لنساء سافرات.. دهش المعلم وأطلق عليه لقب "الشيخ رجب".
أمضى حياته خارج المدرسة يبيع البطيخ أو كيك السمسم الذي يسميه الأتراك، حتى يسد رمقه ورمق عائلته الفقيرة، ويقول اردوجان عن هذه الفترة "لم يكن أمامي غير بيع السميط والبطيخ في المرحلة الابتدائية والإعدادية، كي أستطيع معاونة والدي وتوفير قسم من مصروفات تعليمي لأن والدي كان فقيراً ".
لم تمنعه هذه النشأة المتواضعة أن يعتز بنفسه.. فقد ذكر في مناظرة تلفزيونية مع دنيز بايكال رئيس الحزب الجمهوري ما نصه : "لم يكن أمامي غير بيع البطيخ والسميط في مرحلتي الابتدائية والإعدادية، كي أستطيع معاونة والدي وتوفير قسم من مصروفات تعليمي : فقد كان والدي فقيراً "
بدأ اهتمامه السياسي منذ العام 1969 وهو ذو 15 عاماُ إلا أن بدايته الفعلية كانت من خلال قيادته الجناح الشبابي المحلي لحزب "السلامة أو الخلاص الوطني" الذي أسسه نجم الدين أربكان ثم أغلق الحزب وكل الأحزاب في تركيا عام 1980 جراء انقلاب عسكري وبعد عودة الحياة الحزبية انضم إلى حزب الرفاه عام 1984 كرئيس لفرع الحزب الجديد ببلدة بايوغلو مسقط رأسه وهي إحدى البلدات الفقيرة في الجزء الأوروبي في إسطنبول، وما لبث أن سطع نجمه في الحزب حتى أصبح رئيس فرع الحزب في إسطنبول عام 1985م وبعدها بعام فقط أصبح عضوا في اللجنة المركزية في الحزب
يتهمه البعض بأنها ممن تنكر لماضيه، وهي تهمة مردودة على قائلها، فليس أدل على عدم تنكره لماضيه من أنه لم يغير مسكنه – رغم بساطته – بعد وصوله لمنصب عمدة المدينة اردوجان رئيس بلدية إسطنبول ما خطر ببال أحد من أهالي حي قاسم باشا الفقير بمدينة إستانبول أن يصبح أحد أبنائه رئيساً لبلديه المدينة.
فضلاً من أن يكون رئيساً لأكبر حزب سياسي بتركيا أو رئيساً لوزرائها , لذا فقد سهر أهالي الحي حتى الصباح يوم انتصار اردوغان ولخص أحد هؤلاء البسطاء فرحتهم قائلاً : "نحن نفتخر بأردوغان فإننا نعتقد أن أحداً بعد اليوم لن يجرؤ على السخرية منا أو إهمالنا وهنا يجب التأكيد على أمر غاية في الأهمية هو أن تعليمه الديني وتدين والده لعبا دورا بارزاً في ملامح شخصيته وممن تأثر بكتاباتهم الشاعران المسلمان محمد عاكف توفى 1936، ونجيب فاضل توفي 1985، لدرجة أن أردوغان دخل السجن لأول مرة في حياته عام 1999 وفقد مقعد كعمدة إسطنبول بسبب قراءة شعر للراحل محمد عاكف، جاء فيها
مساجدنا ثكناتنا* قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا* والمصلون جنودنا
هذا الجيش المقدس يحرس ديننا فأصدرت المحكمة حكماً بسجنه.
بعدها لم يستطع تمالك نفسه حين خرج من مبنى رئاسة البلدية عام 1999 إثر الحكم بحبسه لمدة سنة فوجد فتى في الرابعة عشرة يركض إليه على كرسي متحرك ليقول له إلى أين يا رئيسنا ؟ لمن تتركنا ؟ يقول أردوغان فرت الدموع من عيني ولم يكن بوسعي غير التماسك أمام الصبي وطمأنته ثم قبلته.
وفي اليوم الحزين توافدت الحشود إلى بيته المتواضع من أجل توديعه وأداء صلاة الجمعة معه في مسجد الفاتح، وبعد الصلاة توجه إلى السجن برفقة 500سيارة من الأنصار وفي تلك الأثناء وهو يهم بدخول السجن خطب خطبته الشهيرة التي حق لها أن تخلد التفت إلى الجماهير قائلاً: وداعاً أيها الأحباب تهاني القلبية لأهالي إسطنبول وللشعب التركي وللعالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك سأقضي وقتي خلال هذه الشهور في دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة والتي ستكون إن شاء الله أعواماً جميلة سأعمل بجد داخل السجن وأنتم أعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه. أبذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين وحقوقيين متميزين أنا ذاهب لتأدية واجبي وأذهبوا أنتم أيضاً لتأدوا واجباتكم, أستودعكم الله وأرجو أن تسامحوني وتدعوا لي بالصبر والثبات, كما أرجو أن لا يصدر منكم أي احتجاج أمام مراكز الأحزاب الأخرى وأن تمروا عليها بوقار وهدوء وبدل أصوات الاحتجاج وصيحات الاستنكار المعبرة عن ألمكم أظهروا رغبتكم في صناديق الاقتراع القادمة ..
ولم يستطع السجن أن يهبط من عزيمته, حيث يقول اردوغان عن تلك الفترة "قمت بدراسة العديد من المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة. وعملت بجد وإخلاص داخل السجن لتطوير بلدي".
يوصف اردوغان بأنه حماسي جدا وعاطفي جداً.. يمكن أن يكون هذا باختصار هو اردوغان، فالعلاقات الاجتماعية الدافئة من أهم ملامح شخصيته : فهو أول شخصية سياسية يرعى المعوقين في ظل تجاهل حكومي واسع لهم ويخصص لهم امتيازات كثيرة مثل تخصيص حافلات، وتوزيع مقاعد متحركة، بل أصبح أول رئيس حزب يرشح عضواً معوقاً في الانتخابات وهو الكفيف "لقمان آيوا" ليصبح أول معوق يدخل البرلمان في تاريخ تركيا.
أما بشأن زواجه من المناضلة أمينه فقد بدأت قصة زواجه من رؤيا راتها أمينة المناضلة الإسلامية في حزب السلامة الوطني حيث رأت فارس أحلامها يقف خطيبا أمام الناس – وهي لم تره بعد – وبعد يوم واحد ذهبت بصحبة الكاتبة الإسلامية الأخرى شعله يوكسلشلنر إلى اجتماع حزب السلامة وإذا بها ترى الرجل الذي راته في منامها رأت أوردغان.. وتزوجا بعد ذلك واستمرت الحياة بينهما حتى وصوله لسدة الحكم مشكلين ثنائياً إسلامياً جميلاً.. لهما اليوم عدد من الأولاد.. أحد الأولاد الذكور سمى "نجم الدين" على أسم أستاذه نجم الدين أربكان من فرط إعجابه واحترامه لأستاذه وإحدى بناته تدرس في أمريكا لعدم السماح لها بالدراسة في الجامعة بسبب حجابها.
ما قام به اردوجان لا يمكن أن يوصف, فقد انتشل بلديه إسطنبول من ديونها التي بلغت ملياري دولار إلى أرباح واستثمارات وبنمو بلغ 7% بفضل عبقريته ويده النظيفة وبقربه من الناس, لا سيما العمال ورفع أجورهم ورعايتهم صحياً واجتماعياً وقد شهد له خصومه قبل أعدائه بنزاهته وأمانته ورفضه الصارم لكل المغريات المادية من الشركات الغربية التي كانت تأتيه على شكل عمولات كحال سابقية بعد توليه مقاليد البلدية خطب في المجموع وكان مما قال : "لا يمكن أبدا أن تكون علمانياً ومسلماً في آن واحد إنهم دائما يحذرون ويقولون إن العلمانية في خطر.. وأنا أقول : نعم إنها في خطر إذا أرادت هذه الأمة معاداة العلمانية فلن يستطيع أحد منعها..
إن أمة الإسلام تنتظر بزوغ الأمة التركية الإسلامية وذاك سيتحقق أن التمرد ضد العلمانية سيبدأ.
ولقد سؤل اردوجان عن سر هذا النجاح الباهر والسريع فقال : لدينا سلاح أنتم لا تعرفونه إنه الإيمان. لدينا الأخلاق الإسلامية وأسوة رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام ".
يؤكد أردوغان أن الرسول صلي الله عليه وسلم هو أسوته الأولى, لكن ذلك لا يمنع أنه تأثر أيضا بالزعيم "نجم الدين أربكان" الذي منحه الثقة وأعطاه الفرصة ليصل لمنصب رئيس فرح حزب الرفاه وهو في الخامسة والثلاثين ثم رئيس بلديه إسطنبول أكبر بلدية عامة بتركيا عام 1995
إصلاح ما أفسده العلمانيون :
بعد تولي اردوغان رئاسة الحكومة.. مد يد السلام ونشر الحب في كل أتجاه، تصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخي وكذلك فعل مع أذربيجان، وأرسى تعاونا مع العراق وسوريا ولم ينسى أبناء شعبه الأكراد فأعاد لمدنهم وقراهم أسمائها الكردية بعدما كان ذلك محظورا وسمح رسميا بالخطبة اللغة الكردية، وافتتح تلفزيون رسمي ناطق بالكردية. كل هذا وأكثر.
العلاقة بين تركيا وإسرائيل مستمرة في التدهور منذ تولي أردوغان رئاسة الحكومة التركية فمثلا إلغاء مناورات "نسور الأناضول" التي كان مقررا إقامتها مع إسرائيل وإقامة المناورة مع سوريا التي علق عليها أردوغان "بأن قرار الإلغاء احتراما لمشاعر شعبه" أيضا ما حصل من ملاسنة في دافوس بينه وبين شمعون بيريز بسبب حرب غزة خرج بعدها من القاعة محتجا بعد أن ألقي كلمة حق في وجه "قاتل الأطفال" دم أردوغان المسلم يغلي حتى في صقيع دافوس واستقبل في المطار عند عودته من آلاف الأتراك بالورود والتصفيق والدعوات, أما ما فعله وما سيفعله بعد حادثة أسطول الحرية فلم ينتهي بعد..
موقفه الأخير من بشار الأسد الذي يقتل شعبه، والإنقلابيون في مصر بدا غاية في الروعة، وآية في الحسن والجمال عندما رفض الاعتراف بهم في الوقت الذي يسومون فيه شعبيهما بأشد أنواع التنكيل والقتل، وعندما رفع يده يحيي رابعة لم تجد الجموع العربية والإسلامية بداً من رفع يدها خلفه، فكانت رابعة رمزاً للنضال بعد تحية هذا الرجل لها..
كل ذلك و ما زال اردوغان كتاباً مفتوحاً لن تغلق صفحاته وسيذكره قومه إذا جد جدهم، لأنه باختصار كرّس الحياة لخدمة دينه وشعبه وليست أي حياة، إنها تلك الحياة التي تقاس بمواقفها..
مروان المخلافي
أردوجان ..الحياة عندما تقاس بمواقفها 1407