الانقلاب العسكري هو تحرك أحد العسكريين للاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية الصلبة، والتي غالباً ما تكلف خسائر بشرية ما، لتحقيق طموحات وأطماع ذاتية بغية الاستيلاء القصري على الحكم، حتى وإن تم إخفاء ذلك حيناً من الوقت.
وهو بذلك قد ثار وأجبر وقصر النظام السياسي الحاكم وعزله عن الحكم، وفي نفس الوقت قهر وقصر الشعب حين استولى على حكمه وفرض نفسه عليه بغير إرادته بمعنى أنه خلص الشعب من حاكم غير مقبول إلى حاكم آخر غير مقبول أيضاً من الشعب الذي اعتاد كما اعتادت وانتظمت دول العالم الحر على اختيار حكامها.
ولا مانع من أن يتحد العسكر المنقلبون على الحكم والشعب معاً من اتخاذ بعض الإجراءات الشكلية لتجميل شكل الانقلاب، ومحاولة توصيفه على أنه ثورة، تمامًا كمن يحاول تعمية وإخفاء الشمس وتوصيفها على أنها القمر.
أما الثورة فهي قيام الشعب غير الراضي عن نظامه السياسي الذي يحكمه، ويعجز عن تلبية طموحاته بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة السلمية، وقد يتعاون العسكر معهم في إحدى المراحل كوسيلة وأداة من أدوات الثورة المدنية دون أن تتلون بأي لون عسكري.
تمتلك فيه النخبة السياسية المدنية تصورًا ورؤيةً ومشروعاً ثورياً جديداً لقيادة الدولة، هذا المشروع الثوري يتضمن مشروعين، الأول منه مشروع تفكيك النظام القديم بأفكاره ورموزه ومشروعاته وإجراءاته، ومحاسبته على جرائمه وإخفاقاته في حق المجتمع، وتطهير البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من آثاره، والمشروع الثاني يتضمن بناء وتنمية ونهضة المجتمع والدولة بفكر ورموز ومشاريع جديدة تحسن فهم اللحظة التاريخية الراهنة التي تعيشها الدولة بكل تحدياتها وتطلعاتها، وبإمكانياتها ومواردها المتاحة.. ويتطلب الأمر ما يعرف بالفترة الانتقالية لإتمام المشروع الأول واللازم للتخلص من آثار الحقبة الماضية.
ويتفاوت مقدار وتكاليف الفترة الانتقالية من ثورة لأخرى لعدة اعتبارات يأتي في مقدمتها مدى كفاءة ووعي النخب القائدة للثورة بحقيقة ومراحل الثورة وكيفية تنفيذها, بالإضافة إلى مستوى الوعي الشعبي، والذي يمثل العنصر الأساسي في دعم واستكمال مراحل الثورة حتى نهايتها، بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى التي لا تقل أهمية عما سبق من مستوى القبول والدعم الإقليمي للثورات الجديدة في تلك المنطقة.
وحقيقة وجوهر الاختلاف بين الانقلاب العسكري والثورة هو أن الثورة تهدف إلى تحرير الناس، أما الانقلاب فيهدف إلى حكمهم، الثورة يقودها الشعب فيتبعه الجيش، والانقلاب يقوده الجيش فيتبعه الشعب، الثورة تغيير لقواعد بناء السلطة لتكون الكلمة الأخيرة فيها للشعب، أما الانقلاب فهو تغيير لأشخاص الحكام مع بقاء القوة معياراً للحكم.
ومن المعلوم أن العسكر بحكم نوعية تربيتهم وتعليمهم العسكري الخاص، وعزلتهم في حياة عسكرية لفترات زمنية طويلة أصبحت بحكم طبيعة عملهم هي الأصل جعلتهم يتسمون بسمات خاصة تجعلهم مؤهلين بشكل كامل للحياة العسكرية، وغير مؤهلين لقيادة وإدارة الحياة المدنية بشكل كبير، بل وتجعل من الأمر كارثيًّا حينما يتولى العسكر المناصب القيادية في الحياة المدنية وخاصة الحياة السياسية، وذلك ما تؤكده المراحل التالية للانقلابات العسكرية التي تولى فيها العسكر السلطة حيث حكموا المجتمع بالحديد والنار، وتتجلى بعده وتباعاً آثاره الكارثية على الحياة المدنية في كافة مجالاتها وأولها القيم والأخلاق والهوية، ويتلوها الخراب الاقتصادي والضعف والضمور السياسي للدولة، ناهيك عن تجمد وشلل كافة مناحي الحياة الفنية والثقافية والتي توجه جميعها لخدمة وتبرير وتجميل وتمكين العسكر على رقاب المجتمع.
ولبيان هذه الحقيقة تعالوا بنا نغوص في أعماق الشخصية العسكرية ومكوناتها النفسية والذهنية والوجدانية حيث نرى الشخصية العسكرية مغمورًا بالثقافة العسكرية من هامته وحتى قدمه يقدس الانضباط العسكري ويترقب التوجيهات والأوامر الصادرة إليه ليفكر فقط في سبل تنفيذها على أفضل ما يكون مما يجعله في الغالب ذا عقل تقليدي، شحيحًا في إنتاجه للأفكار، محدود التفكير والخيارات ويميل غالبًا إلى الاقتباس والتقليد من التجارب السابقة أو المماثلة وفي حدود ما تلقاه من علوم عسكرية تحفظه في إطار الانضباط والوقاية من الوقوع في الخطأ، أو المحظور الذي يكلفه كثيرًا في ملفه الوظيفي كما أن البنية المعرفية للعسكر عسكرية خالصة ومجردة تقريباً مما سواها من المعارف والثقافة الحياتية، كما أن حياتهم العسكرية بثكناتهم العسكرية بعيداً عن الحضر، تجعلهم في حالة عزلة عن المجتمع المدني، مما يعزز غربتهم عن الحياة المدنية وأسس ومهارات فهمها وإدارتها..
هذا بالإضافة إلى أن البنية النفسية للعسكر حدية جامدة حيث يتصور عالم العلاقات حدياً دائماً بمعنى عدو وصديق، منتصر ومهزوم، مطيع وخائن، كما أن نشأته وتمرسه على الحياة العسكرية التي تتميز بالأمر والتنفيذ تجعله حديًا، ومنغلقًا بشكل كبير عن أية أفكار أو آراء أخرى حتى وإن كانت تسير في نفس السياق، فما بالك بالتي تخالفه وتتقاطع معه، مما تجعله يصنف صاحب الرأي الآخر مخالفًا، وغير منضبط وربما خائن وعدو.
كما أن البنية الوجدانية للعسكر مختزلة في حب الوطن والعلم والقيادة وسلاحه ووحدته التي ينتمي إليها، مما يجعله في الغالب بعيدًا عن تفهم الجوانب النفسية والوجدانية للمدنيين بصورة جيدة، ولذلك تراه في الغالب محدودًا في علاقاته الاجتماعية ربما على زوجته وأفراد أسرته فقط.
ومن المعلوم أن علم الإستراتيجيا بدأ عسكريّاً ثم انتقل إلى الحياة المدنية مع بدايات القرن التاسع عشر، حيث تلقاه علماء ومفكرو الإدارة، واجتهدوا وتوسعوا في الاستفادة منه، وبتطور علم الإدارة وانتقاله إلى كافة مجالات الحياة التربوية والإعلامية والاجتماعية والطبية والصناعية والزراعية... الخ انتقلت معه الإدارة الاستراتيجية إلى كافة مجالات وميادين الحياة الحديثة، مما جعلها تسبق أصلها ومنبعها العسكري بكثير خاصة أن العلوم العسكرية بطبيعتها الأمنية المغلقة، لا تتمتع بما تتمتع به مجالات وساحات العمل المدني في الجامعات ومراكز البحث العلمي التي تنتج كل يوم جديدًا في مجالات الإدارة الاستراتيجية، مما جعل القادة والمديرون المدنيون يسبقون العقل والفكر العسكري بكثير، وذلك ما نعاينه جليًا عندما يتولى أحد القادة العسكريين السابقين مناصب مدنية إدارية عليا في المجتمع حيث يتسم بالجمود والانغلاق والإصرار الشديد على مجموعة من الأفكار والمفاهيم والنظريات التقليدية المتقادمة، كما أن قابليته ومرونته في التعاطي مع الجديد تكن محدودة بشكل كبير.
بالتأكيد كل ذلك لا يقلل من قيمة ومكانة العسكر خاصة عندما يتخصصون وينشغلون بمهامهم الأساسية التي تنص عليها دساتير الدول المختلفة، من حفظ لأمن وسلامة واستقلالية التراب الوطني وحماية الوطن من كل تهديد واعتداء عليه، خاصة أنها مهمة من أعظم المهام التي لا يكلف بها إلا الرجال المتخصصون المحترفون المخلصون لبلادهم.
ولكن الخطأ والخطر الداهم هو حينما يتخلى العسكر عن مهمتهم الأساسية ويتحولون إلى العمل بمهام حكم وإدارة الدولة، حيث يفتقدهم ميدانهم الأصلي، خاصة بعد أن يتوقف أو يضعف نشاطهم التدريبي، وتطويرهم وصيانتهم لأسلحتهم وأدواتهم القتالية، والذي يؤثر بلا شك على كفاءتهم واستعدادهم وجاهزيتهم القتالية في مواجهة العدو الحقيقي للبلاد..
بالإضافة إلى أن الانقلابات العسكرية ورغبة العسكر في تولي زمام السلطة السياسية يفرض على العسكر افتعال معارك وهمية مع الفصائل السياسية الداخلية التي ينازعها السلطة، ويفتعل معها عداءً وهميّاً، لضمان ولاء قيادات وأفراد الجيش له والتزامهم بالولاء له وطاعته، عبر صناعة عدو وهمي للوطن تجب محاربته وقتاله، ومن ثم يضطر إلى تغيير عقيدة الجيش، وهذا يعد من أم الكوارث التي يمكن أن تصيب أي مجتمع ودولة، وبطبيعة الحال يحتاج الأمر إلى إيهام وإقناع الشعب بدور قادة الانقلاب كمخلصين للوطن من ادعاءات السياسيين، وأحقيته باستلام السلطة لضمان تأمين البلاد من هذا الخطر المحدق مما يدفعه إلى تسخير جهاز الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، وآلة إعلام الدولة لممارسة وصناعة الكذب والتضليل وخداع الشعب بوجود عدو ضخم وخطير جدًّا من أبناء الوطن كان متخفيًا وقام العسكر باكتشافه فجأة، وتتفرغ الآلة الإعلامية بمساندة المخابرات وكافة أجهزة الجيش المساعدة لتحقيق هذا الهدف، وإدخال الشعب في حالة من التجهيل والخوف والرعب حتى يركع أمام العسكر، متوسلاً مستجدياً إليه بتولي السلطة والحكم وحمايته من الخطر الداخلي.
وذلك يعد أيضًا من أم الكوارث الأخلاقية القيمية التي تهدد منظومة القيم الحاكمة للمجتمع ومن ثم هويته وشخصيته الخاصة المميزة له، حيث تصنع معادلة صناعة الخوف والتجهيل والوهم والخداع تصنع محرقة كبرى لقيم وثوابت المجتمع من حرية واعتزاز بالذات وانتماء للوطن وشفافية واحترام وصدق وأمانة ورغبة في العمل والإنجاز وحب وتعاون وتكامل وعمل بروح الفريق وإعلاء للمصلحة العليا للمجتمع وانتظام والتزام بتقاليد وأعراف المجتمع إلى منظومة جديدة بديلة استثنائية لا يعرفها البشر إلا تحت القهر والاستبداد والإذلال من كذب وخداع وأنانية وإحساس بالدونية وغياب للحب والانتماء للوطن والعشوائية وتجاوز كل الأعراف والتقاليد والقوانين وعنصرية وتحلل وتوحش بما يحول المجتمع البشري إلى ما يشابه غابة الحيوان.
بالتأكيد تفرغ الجيش لهذه المهمة يؤثر على الأمن القومي للبلاد في عناصره الأربعة حيث تتغير الهوية، ويتهدد الاستقلال والسيادة على التراب الوطني، كما يتعرض نسيج المجتمع إلى التفكك وتتهدد فرصة التنمية في المجتمع.
ويجعل الدولة على حافة الهاوية, حيث تدمر من الداخل قيمياً وأخلاقيّاً ونفسيّاً واقتصاديّاً وسياسياً، خاصة عندما يتولى السلطة العسكر غير المتخصصين لا في السياسة ولا الاقتصاد ولا التنمية، كما أنهم يستعينون غالباً بأهل الثقة وأكثر الناس تزلفاً ونفاقاً وولاءً لهم.
* مستشار تخطيط القيم والمحافظة على الهوية بمصر
د.إبراهيم الديب
الانقلابات العسكرية وتهديد الأمن القومي وتفكيك الهوية 1355