ماذا لو توقف كل واحد منا لبرهة يراجع فيها دوافعه قبل الشروع في الفعل؟, ماذا لو محص كل واحد نيته, ودقق في حقيقة الباعث له على التحرك في هذا الأمر؟.. كم ستختلف النتائج لو أن هذا يحدث, سوف تصل القضايا لنصابها الصحيح, بعدما يتكون لدى كل واحد موقف واضح, معلوم باعثه وغايته.. موقف نابع من نية إصلاح صادقة متجردة, ومن منطلق مبدأ أصيل, وقيمة راقية ثابتة.. كلنا قد تستخفنا دعوات, وتحركنا أحداث, فنتطاير كأوراق في مهب المتغيرات ..
يكون ذلك في حياة معظم الناس, يحدث ذلك قطعاً في مسيرة العمر, سواء في قضايا كبرى أم صغرى.. وربما لن يشعر المرء بالخزي تجاه ذلك مهما كانت النتائج, خاصة حينما تكون دوافعه نبيلة, و مقاصده مشروعة.. وحتى لو كشفت له الأيام التالية بأن الداعي, والمحرك للحدث لم تكن نواياه سليمة, ولم تكن بغيته شريفة!.. لنسم ذلك خدعة أو لنمسه أي شيء, النتيجة أنه قد يدفع بك دون وعي منك لتصبح ورقة متطايرة في مهب حدث دبر له بليل!..
ليس ذلك ذا شأن كبير.. لكن المؤسف حقاً هو أن نستعذب التطاير في مهاب متكررة.. أن نعيش العمر كله ورقة في مهب زوابع يثيرها آخرون.. نصبح كائنات ورقية خفيفة, تطيرنا زوبعة تلو زوبعة, وتذهب بنا أعاصير أهل المكر والخداع, وعبيد الأهواء كل مذهب!, ونصبح ورقة يلعب بها من صدق فيه قوله جل وعلا:( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة, فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).. كم هو مخجل العيش بهذه السمة الورقية!, تستخف المرء الدعوة تلو الدعوة, ويتكرر منه الخطأ تلو الخطأ.. يصير نقطة ضئيلة في موج لا يدري أين هو ذاهب!.
والسؤال هنا: لماذا لا يطيق كثيرون القيام بهذه الوقفة الواجبة للتدقيق في حقيقة الباعث له على التحرك والفعل؟!.. كل ما مر بنا من أحداث جسام خلال بضعة أعوام مضت كشف لنا عن فجوة كبيرة في الشخصية العربية, حيث لمسنا عدم التوازن بين منطق العقل وعنفوان العاطفة!, وهذه المعضلة كان لها الأثر العميق في إحداث الكثير من الإرباك في تسيير دفة التغيير نحو الأفضل.. تفكير مضطرب, وشخصيات فاشلة صنعت كل هذا العناء للأمة!!..
الشخصية الناجحة هي من تتمتع بالكثير من الانسجام بين طاقة العقل المنطقي, والعاطفة الجياشة.. الشخص السوي الواعي لا يطيع هواه ويمضي في الفعل لمجرد أنه راغب فيه.. أو لأن فلان استحثه للخروج.. بل لا يقدم على خطوة إلا بعد سؤال نفسه عدة أسئلة: ماذا, متى, من, لماذا, كيف, وماذا بعد؟.
الشخص الرشيد يتعلم من الدروس السابقة, ويتسم بالشجاعة الكافية ليعترف بخطأة ويغير خططه لتصحيح المسار.. عندما وصف النبي "صلى الله عليه وسلم" أمة أخر الزمان "بالغثاء" أشار بذلك للشخصية الهلامية, الورقية, الغير مالكة لذاتها, الغير واعية بحقيقة دوافعها..
الأمة تمر بمحك مؤلم, محنة واختبار جمعي وفردي, اختبار للوعي والضمير الجمعي, واختبار للوعي والضمير الفرد.. غير أن ما يجدر التنبه له هو أن المسئولية في الإسلام فردية بالدرجة الأولى "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا".. لم يفت الأوان بعد, فكل واحد يمكنه التوقف للارتقاء بنفسه, وتصحيح مساره, والمجاهدة للنأي بذاته عن الصيرورة فقاعة غير واعية في سيل الغثائية, أو ورقة في روزنامة اللاعبين الكبار!.
نبيلة الوليدي
ناس من ورق!! 1479