أعجوبة.. هذه المدينة الجنوبية الزرقاء، لماذا هي من بين كل المدن لونها سماوي.. أبوابها سماوي.. ونوافذها سماوي.. وقلبها سماوي.. كأنها مرآة السماء وتوأم البحر، كالعين والرمش، كالقلب والنبض، فيها تفنى كل المسافات، وتمتزج كل الألوان والأجناس وتتعايش الكتب وتتماها الرتب، تتجاور المساجد والكنائس والمعابد، لا تسألك من أنت؟ أو من أين؟ ولماذا؟, وعندها فقط يبقى الأمر وحده يومئذ لله.
حين يقسو أبناؤها تصفح، وحين يغفوا الآخرون تسهر، وفي موعد استيقاظهم تلقي عليهم تحية الصباح وتأخذهم إلى إحدى مقاهي المدينة حيث الشاي العدني و(الخمير) وأغاني الصباح ورائحة بخور من بيوتها الضيقة وقلوبها المتسعة الواسعة، والمرصعة بلآلئ من بساطة الناس وطيبتهم والمتوجه بأكاليل التسامح والقبول، الممهورة باحتفالات العصافير اليومي في حدائق الود والورد، ورقصاتهم بين اخضرار الحدائق وهم يرددون أعذب لحن عن المدينة الحاضنة والتاريخ والتفاصيل.
تبهرك هذه القامة، لأنك أمام هامة وعلامة، وقيمة عظيمة، صافية صفاء الماء الرقراق، منسدلة على جدار المنطقة كشجرة ياسمين كل شبر تهديه وردة بيضاء إعلان عن حب أو عنوان التميز، كانت توزع يسمينها على الكل منذ كانت المنطقة بدو رحل، صحراء، وابل، وخيمة، جرى ذلك بينما كان صباحها احد صباحات الطيور والفراشات والورود، وليلها يتلألأ على صفحة الماء كأنها لألئ ودرر.
ذاك ميناءها، قلعتها، صهاريجها، أزقتها ومبانيها القديمة تسرد لنا التميز والإنجاز، قصص وحكايات تحاكي صفاء الروح ونقاء السريرة، أناشيد العمل، وأهازيج الصيادين، وكأنهم على موعد دائم مع الفرح.
منحها الله الموقع فصارت شامة وعلامة في خد الجزيرة والخليج وعروس (البحرين) الأحمر والعربي، وحارس باب المندب وخليج عدن وصبية مطلة على المحيط، من عيونها يزداد البحر إضاءة ومن جبينها يزداد الق، وكأنها لؤلؤة كلما لامسها النسيم أو قبّلها الفجر بقطرة ندى أنسابه لمعانا وقوة لتجبرك على التساؤل أي يد هذه أبدعت وأي آنية تلك التي لا تستطيب إلا احتضانها تباهيا بتاريخها ودورها، لتتحول إلى ملكة يكلل رأسها تاج وكأنها ملكة الأساطير، مدينة المدائن، عروس البحر التي ترتدي حنين السفن للموانئ واشتياق المغادرين إلى حيث المولد, والحبو, والكلمات الأولى، إلى حضن الأم، وأحلامهم الوردية وملاعبهم، وإلى الخطوة الأولى هناك حين تعلموا السير لأول مرة.
أعجوبة هذه المدينة:
هل عرفتم الآن لماذا سرب البجع لا يحلو له المقام إلا في أحواضها وأحضانها ولا يصطاف إلا هنا، على يمين طريقها البحري تجدونهم وكأنهم في عرس لا ينتهي؟.. هل تعرفون لماذا يصر طائر الهدهد على إهداء ألوانه الجميلة للمدينة ويرفض أن يغادر ويشدو بالحان المد والجزر وأناشيد القادمين العاشقين المتيمين بزرقاء اليمامة هذه وبقوس قزح، حيث لا تكمم الأفواه ولا تصادر الأفكار، ولا تكفّر الأسئلة.
يقولون تغيّرت!.. لا، لم تتغير فقط ثمة جرح في جسمها الغض، وبقعة لون مفتعلة، وثمة لدغات بعوض على الوجنتين.
فؤاد عبد القوي مرشد
عدن....!!! 1328