قال تعالى "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليه القول، فدمرناها تدميرا" (الآية 16 من سورة الإسراء) صدق الله العظيم..
حينما تتراجع قيم الأمانة والمسؤولية الوطنية وتتخلى السلطة عن دورها الأخلاقي والقانوني تجاه المجتمع في الحد من آثار الفساد والسماح للبعض بتجاوز قيم المواطنة المتساوية وانتهاك حقوق الإنسان بحرمان بعض المواطنين من الوصول إلى حقوقهم دون تفحص الولاء الحزبي والدفع بظاهرة الولاء السياسي لحزب ما مقابل تحقيق مصلحة أو منفعة شخصية باستخدام وسائل غير مشروعة غايتها إقصاء من له الحق فيها, سيكون الناتج النهائي هو تزييف الوعي الشعبي وإشاعة النفاق الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع, والعمل على تفريغ قيم المجتمع الجوهرية من مضمونها الإنساني والأخلاقي, بما يساعد على تفكك المجتمع وتراجع روح علاقاته الاجتماعية, وتقويض المشاركة السياسية, وزعزعة الثقة بالحكم وبمصداقية الحكومة, وتراجع إقبال المواطنين في الانتخابات والانتماء للأحزاب نتيجة عدم اقتناعهم بنزاهة المسئولين، وعدم الثقة بالمؤسسات العامة وأجهزة الدولة وارتفاع معدل البطالة، وارتفاع سقف الكراهية والحقد والنقمة بين مكونات المجتمع وتبلور خلايا الإرهاب واتساعها خاصة بين فئات الشباب, والتهيئة لبيئة جاذبة لبرامج وغايات أصحاب المشاريع الصغيرة ودعوات التطرف, وفي المقابل بيئة طاردة للكفاءات التخصصية التي ترفض المشاركة في عمليات الفساد نتيجة مواجهتها لموجات الفساد المستشرية والتي يتضاءل الأمل لديها يوماً بعد يوم في الحصول على موقع يتلاءم مع قدراتها، مما يدفعها للبحث عن فرص عمل ونجاح في الخارج، وهذا له تأثيره على اقتصاد وتنمية المجتمع عموماً, ويسهم الفساد أيضا في تفشي عدم المسؤولية الفردية والجماعية تجاه الوطن, وتعزيز النوايا السلبية لدى أفراد المجتمع، إضافة إلى تراجع الخدمات الصحية والتعليمية.
ويؤدي الفساد كذلك إلى انتشار الجريمة ومبرر لانتشار العنف بين أطياف المجتمع السياسية والاجتماعية بسبب غياب القيم وعدم تكافؤ الفرص, وانعدام المراقبة، وتهميش دور السلطة القضائية، وفقدان العدالة، وعدم معاقبة المسئولين الكبار الذين تورطوا في عمليات الفساد ونهب المال العام وضعف العقوبة المقررة لمرتكبي عمليات الفساد، كما يعمق الفساد الشعور بالسخط تجاه السلطة من قبل المتضررين ويزيد من نسبة الفقراء والمعوزين, ويدمر عري الوشائج والتراحم والتواصل بين طبقات المجتمع, ويخرج المجتمع الإنساني من قيمته الكريمة إلى قيمة مادية تقوم آصرتها على المادية المطلقة, فتظهر المصلحة هي الغاية التي يبني الناس على أساسها قيمة أخلاقهم, وقربهم من بعضهم البعض, ومرجعية لأحكامهم فيما يستشارون به, وأساس للكره والحب والعداء وإعلان الحرب والقطيعة وتغدو المصالح الشخصية وتحقيق المنفعة هي الأكثر تأثيراً في حياة الفرد وحياة المجتمع..
ولن يتوقف الفساد عند قيم الفرد فقط, بل يتعدى ذلك إلى تحلل قيم المجتمع وتصبح المصلحة الشخصية لها حضورها وتأثيرها الفاعل والقوي في صناعة قرارات الحكومة التي تتخذها حتى وان كانت هذه القرارات مهمة ومصيرية, وبالتالي فإن التكلفة التي سندفعها جميعاً تجاه فساد منظومة القيم الأخلاقية والروحية والقانونية لن تكون فردية, بل ستكون باهظة بانهيار وطن.
د.عبدالحكيم مكارم
الفساد.. تكلفته انهيار وطن!! 1538