يغفل الكثير من السياسيين الذين يقدمون أنفسهم كممثلين لأبناء الجنوب ويطالبون بالانفصال عن الشمال ويطمحون إلى تأسيس دولة جديدة هي دولة (الجنوب العربي).. إن هذا الجنوب الذي ينكرون يمنيته قد خاض ـ عقب استقلاله عام 1967م ـ ثلاثة حروب ضد الشمال استمدت مشروعيتها من الرغبة الكامنة في إعادة توحيد شطري اليمن في دولة واحدة باعتبار هذا الهدف ظل في مقدمة الأهداف الوطنية لثورتي سبتمبر وأكتوبر ومناضليهما الذين جعلوا من إعادة تحقيق الوحدة اليمنية هدفاً استراتيجياً ومحورياً في منهجيتهم الفكرية والثقافية.
ويتجاهل أولئك السياسيون الذين يتاجرون اليوم بالقضية الجنوبية ويسعون ـ من خلال ذلك ـ إلى تزييف التاريخ واعتساف حقائقه من علي سالم البيض وابوبكر العطاس وحسن باعوم وعبدالرحمن الجفري إلى عبدالله الاصنج. إن تلك الحروب الثلاث بدءاً بحرب 1972م ومروراً بحرب 1979م وانتهاء بحرب ماكان يعرف بالمناطق الوسطى والتى جرت جميعها في أراض شمالية, إن أهم بواعث إشتعال هذه الحروب والتصفيات والاغتيالات التى جرت بعدها لم تكن تجليات الصراع بين النظامين الشطريين اللذين كان أحدهما يصنف بالماركسي والآخر بالتبعية للمعسكر الرأسمالي وإنما كانت العوامل الرئيسية المؤدية إلى هذه الحروب هي الوحدة, خصوصاً بعد أن شعر قادة الشطر الجنوبي بارتدادات التشطير التى أسهمت في كثير من الاحتقانات والصراع على السلطة مما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من أبناء الجنوب إلى الشمال.
وتتجلى بعض تفاصيل هذا المشهد في نزوح كوادر جبهة التحرير بقيادة عبدالله الاصنج والجماعات المنشقة عن الجبهة القومية وكذا أعضاء حزب الرابطة بقيادة محمد علي الجفري وشيخان الحبشي وسالم الصافي, فضلاً عن الآلاف من العسكريين بقيادة عشال وأحمد صالح بن الأحمر والذين انتقلوا إلى المحافظات الشمالية وانخرطوا في العملية السياسية شأنهم في ذلك شأن أبناء الشمال ليتولى الكثير منهم مناصب قيادية عليا في الدولة ومن ذلك تولي عبدالله الأصنج لحقيبة وزارة الخارجية وماكان ذلك ممكناً لولم يكن مفهوم الوحدة راسخاً ومتجذراً في وجدان كل اليمنيين.
ولا ندري كيف تحولت الوحدة إلى حاصل جمع بين دولتين يجري التعامل معها من قبل بعض القيادات والمسئولين الجنوبيين باعتبارها مسألة إجرائية يمكن نقضها من جانب أحد الأطراف طالما وقد تغيرت حساباته المصلحية مع أن هذه الوحدة هي من كانت بالنسبة لعلي سالم البيض وغيره من القيادات الانفصالية معبراً لتجاوز الخوف من الصراعات الداخلية وانفراط دولة الجنوب بعد مجزرة 13 يناير عام 1986م ناهيك عن أن الوحدة هي من شكلت السياج الذى وفر لهم الحماية من أعباء وتبعات العزلة الإقليمية والدولية التى كادت أن تخنقهم وتنزلق بهم إلى المصير الذى أحاق بالانظمة الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. وكيف تحول أبناء الشمال إلى غزاة ومحتلين لجزء من وطنهم مع أنهم لم يشكوا ولم يطالبوا بأي اعتذار أو تعويض عن كل ما أصابهم في حروب الجنوب على الشمال وكذا جراء الصراعات التى ارتكبت في كلا الاتجاهين من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب أيضاً ؟..
وهل من الحكمة والواقعية ان يسمح العقلاء في هذا البلد أن تغدو بعض الأخطاء والتجاوزات مدخلاً لاعادة انكاء الجراحات وصراعات الماضي التى مر بها اليمن قبل الوحدة وبعدها لمجرد التبرير لاولئك الذين يحاولون ومن داخل مؤتمر الحوار القفز على الهوية الوطنية الجامعة والاستعاضة عنها بهويات مناطقية ما انزل الله بها من سلطان مع انه ليس بعيداً عن هؤلاء ارتفاع الاصوات المطالبة باحياء الهوية الحضرمية والهوية العدنية والهوية الامهرية.
أليس من المؤسف أن تتعالى الصيحات المبحوحة التى تريد تقسيم اليمن على أسس مناطقية بذريعة اليأس من إصلاح الواقع السياسي وأن التقسيم يعيد الحقوق إلى من يظن انه مظلوم؟ وأليس من الغريب ان يصبح الجدل الدائر داخل مؤتمر الحوار مقتصراً على حكاية البقاء على اليمن موحداً ام نقسمه بيننا أجزاء وبما يتيح لكل جهة منا ان تأخذ من هذا اليمن الجزء الذى تريد بعد ان ظن البعض منا انه من حقه ان يحصل على حصته من اليمن الموحد واخذ نصيبه منه بدلاً من البقاء في يمن لم يعد بوسعه ان يحافظ على نفسه ككيان موحد.
ولعل مايحدث داخل مؤتمر الحوار من صراخ وصخب حول الوحدة وفك الارتباط يذكرنا بحكاية النبي سليمان عليه السلام مع المرأتين اللتين احتكمتا لديه في تبعية طفل ادعت كل واحدة منهما انه لها ولكن فان حكمة النبي سليمان هي من ازهقت الباطل واستنبطت البعد الاخلاقي الذى اراد النبي سليمان من خلاله ان يصل الى الحكم الفصل حينما حكم بان يشطر الطفل الى شطرين ليعطي لكل واحدة منها حقها فيه وكأنه قد أراد بذلك ان يقف على حقيقة انتماء كل واحدة منهما الى الطفل والذى تبين انه للمرأة التى صرخت بالرفض بينما وافقت الام الزائفة على الحكم وبذلك انكشف الغطاء أمام الحقيقة التي باتت مثلاً ومعياراً لايخالطه الشك.
أعتقد أن الأمر في غاية الخطورة حينما يصل التفكير بالبعض إلى ذلك المستوى الهابط الذى تطغى فيه الغرائز على الدلالات القيمية للانتماء الوطني مع أننا جميعاً مازلنا نتذكر من أن الشعب اليمني الذى خرج إلى الساحات مع أو ضد الرئيس السابق علي عبدالله صالح بداية عام 2011م لم ينقسم بين موال ومعارض على فكرة التغيير بل إن انقسامه كان يتمحور في الوسائل الموصلة إلى هذا التغيير, ومن بين المسافات التى تفصل بين الموقفين جاءت فكرة مؤتمر الحوار للتفاهم حول الأسس التى سيبنى عليها ذلك التغيير..
والسؤال الذى يحتل مكاناً مهماً اليوم بين مختلف أطراف المجتمع سياسيين وحزبيين وحقوقيين واقتصاديين وحراكيون وحوثيين ومواطنين عاديين: هل اليمن يسير نحو التغيير فعلاً أم أنه الذي يعيد إنتاج أزماته وصراعاته بقوالب وأشكال أخرى؟
ورغم ثقتنا بأن الكثير ممن يشاركون في الحوار لا تنقصهم الوطنية أو الوعي بحساسية المرحلة التى يمر فيها اليمن إلا أن مايبدو مثيراً للمخاوف هو أن يقع هؤلاء تحت ضغوط الحلول الجاهزة وحملات الترهيب الهادفة الى ارباكهم ومنعهم من القيام بدورهم في الدفاع عن الوحدة التى تصون النسيج الاجتماعي من مثالب التفكك والتشظي والانقسام ولعل اخطر ما يواجهة مؤتمر الحوار الوطني انه الذى يمضي في اتجاه معالجة الفشل في تعميق الهوية الوطنية الواحدة بتكريس الهوية المناطقية وهو ماقد يذهب بنا الى المزيد من الهويات الفرعية والى ماهو ابعد من رأس جبل الجليد خصوصاً في ظل اصرار البعض على اقرار مبدأ المحاصصة الشطرية بما يضمن تقاسم المناصب ووظائف الدولة بالتساوي بين الشمال والجنوب باعتبار ان مثل هذا الحل صار ضرورة لحماية الوحدة والحد من الدعوات الانفصالية ولا ندري متى كانت الحلول الاضطرارية هي الوسيلة الناجعة لطي الأزمات وحسمها مع أن كل التجارب تؤكد على أن مايجري التوصل إليه تحت ضغط الاضطرار إنما هو كمن يعالج خطأ بخطأ أكبر.
ولو أن فكرة تقاسم المناصب فكرة صائبة لما اندلعت حرب صيف 1994م حيث وأن مثل هذا التقاسم سيدفعنا إلى تقسيم أسوأ من مجرد تقسيم الأرض وخازوق أبشع من كل خوازيق الحروب والصراعات السابقة.
علي ناجي الرعوي
خازوق الحوار!! 2329