كثيرون لا يحبون مادة التاريخ وقد كنت بالكاد أنجح في هذه المادة, ثقيلة الدم, وآخرون كان يرسبون، ربما لأن طريقة كتابة أحداث التاريخ نفسها تثير الملل والنعاس، وربما لأن مدرسي التاريخ, مع احترامي لهم, لا يعرفون كيف يحببون التاريخ لطلابهم- بعضهم طبعاً وليس كلهم-, وربما لأنه تاريخ ونحن( أولاد النهار ده), فلا دخل لنا به, وكل واحد قلده الله فيما فعل في زمانه, ولهم ما كسبوا ولنا ما كسبنا, تلك أمة قد خلت.
الأجمل أنك وبكل شجاعة تتصالح مع كتب التاريخ وابتداءً من قراءتها بعد التخرج بأعوام, لتعرف ما لم تكن تريد معرفته, ولأن لا أستاذ ولا رقيب عليك, فالتاريخ هنا نكهته أخرى..
بين حين وآخر أقرأ بحوث أو كتب تاريخية لأكتشف من كل قراءة أن التاريخ يستحق أن يقرأ ويربط بالحاضر ويبني عليه في تحليل الظواهر والعلاقة البشرية..
البحث الرائع الذي بين يدي عمره أكثر من عقدين نشر في مجلة العربي عام 1984م عدد أبريل عن( لغز إيبلا المملكة العربية) وهي مملكة قديمة في سوريا.. وأذكر أنه عندما اندلعت الأحداث في سوريا كان بعض المثقفين يصرخون (حافظوا على آثار سوريا من النهب هذه ثروة الأمة).. نعم، أرواح تزهق, أجساد تتطاير أشلاء, لكن يظل الوطن باقٍ والآثار التاريخية تحكي عن أمة كانت هنا..
البحث يتناول الاكتشافات في(إيبلا) والتي ادعى العلماء وهم( دافيد فريدمان, رئيس تحرير مجلة الآثار التوراتية وميتشل دافيد, رئيس المعهد التوراتي في روما وجيو فاني بتيانو, عضو البعثة المنقبة.. وتابعهم من ذلك عدد كبير من صحفيي التايم والتيوزويك والديلي تلغراف، والأيكونومست والوول ستريت جورنال ولوس أنجلوس تايمز), وركزت الحملة على القول أنه (طالما أن لغة إيبلا قريبة من العبرية وأن نصوصها تحتوي أسماء أعلام وأسماء مدن وردت في التوراة فإنه من المحتمل بكل بساطة أن يكون أصل العبرانيين من إيبلا من سوريا).
يقول الباحث/ محمد الأسعد إن مملكة إيبلا تسبق ظهور هؤلاء بألف سنة وليس من نظمها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية علاقة بالجماعة البدوية الهائمة بين الرافدين ومصر والتي طرأت على الوسط الكنعاني وتعلمت لغته وتبنت موروثاته وتقاليده وأساطيره.
يضيف الباحث الأسعد:( إن المكتشفات تؤكد وبشكل متزايد أن ما في التوراة من تشريعات وقصص وآداب ونظرات دينية ليست خلقاً يهودياً, بل هي محفوظات جمع فيها كتبة التوراة نصوصاً من حضارات مختلفة ونسبوها إلى أنفسهم وإلى حكمائهم وهذه الحضارات المعنية هي حضارة سومر، أكد، بابل، آشور، كنعان والحضارة الفرعونية وهي في غالبيتها ذات إطار واحد لا صلة له باليهودية, لأن هذه الحضارات نشأت وتكونت عبر بضعة آلاف من السنوات).
ويشير الأسعد إلى أن الكشف الأكثر أهمية من ذلك هو ما قام به د. أحمد سوسة وما جاء به في كتابه ( العرب واليهود في التاريخ), هو أن ما تسمى بالشعوب العربية السامية ما هي إلا هجرات القبائل العربية المتتابعة من الجزيرة العربية منذ ما يقارب عشرين ألف سنة قبل الميلاد.. وأن ما تسمى بعائلة اللغات السامية أن هي إلا مصطلح يصف في الحقيقة لهجات للغة واحدة تفرعت مع هذه الهجرات، ولا يصح تاريخياً تسميتها إلا بالطابع العام الذي طبع منابعها أي الطابع العربي.. إضافة إلى أن المكتشفات الأثرية قد دللت عن أن مصطلحات مثل( العبريون) و(الإسرائيليون) و(الموسويون) و(اليهود) ليست مترادفة, وإنما هي إشارات إلى أقوام مختلفين من ناحية عرقية ودينية وتفصل بين ظهورها وتداولها عدة قرون لا تقل عن ستمائة سنة!!.. ما زال الحديث عن لسان الأسعد.. فلفظ عبري أو( عابيرو) هو اسم عمل من مصر لقيادة نبي الله موسى إلى فلسطين.. أما لفظ (يهود) فلا علاقة له بالعبير ولا بإسرائيل وإنما نشأ اللفظ نسبة إلى مملكة يهوذا, ولم يرد من النصوص التاريخية قبل وجود هذه المملكة على أجزاء من فلسطين في القرن السادس قبل الميلاد.
الكلام كبير يوضح الخلط والمغالطات التي تسكن عقول سكان الدولة العبرية الغاصبة, وإلى أي مدى يحرفون التاريخ, وإلى أي مدى هم يوهمون الناس بعد أن أوهموا أنفسهم.. ألسنا في حاجة لقراءة تاريخنا مرة وأخرى وعاشرة؟, ألسنا في حاجة لتدريب مدرسي التاريخ جيداً حتى لا يكونوا عاملاً منفراً لقراءة التاريخ؟, ألسنا مقصرين في إهمال تاريخنا؟.
محاسن الحواتي
قراءة التاريخ تثير النعاس.. لكنها ممكنة!! 1510