سُئلت في عمـَّان: هل صحيح أن الطيران المصري سيقوم بقصف قطاع غزة؟ فاجأني السؤال فقلت لمحدثي بغير تفكير إنني اعترض على مبدأ طرحه، وما يشغلني هذه اللحظة ليس الإجابة عليه ولكنه كيف يمكن أن يخطر احتمال كهذا على بال مثقف فلسطيني؟ رد صاحبنا قائلا، أرجو أن تسمعني أولا وقد تعذرني بعد ذلك. ذلك أن التساؤل شائع في أوساط الفلسطينيين الذين يتحدثون عن انقلاب محزن في المزاج المصري وعبرت عنه حملات مستمرة في وسائل الإعلام استهدفت شيطنة الفلسطينيين وإثارة الكراهية ضدهم. فضلا عن اتهامهم المستمر لفلسطينيي القطاع بأنهم يمثلون تهديدا لأمن مصر، وأنهم متآمرون عليها باستمرار، في سيناء وفى بقية أنحاء البلاد. ولأن حركة حماس التي تدير القطاع لها علاقات تاريخية مع الإخوان. فإن الانقلاب على الأخيرين استتبع انقلابا مماثلا على حماس ذاتها وعلى كل أهالي القطاع. وهؤلاء أصبحوا يعانون الأمرين وهم يقفون على أبواب مصر، سواء في معبر رفح أو في مطار القاهرة أو في أي دائرة حكومية داخل البلد. (أشعرني كلامه بالخزي لأنه ذكرني برسالة تلقيتها على هاتفي من أحد الفلسطينيين بعث بها من مطار القاهرة قال فيها إنه في سجن بئر سبع الذى قضى فيه تسع سنوات من عمره داخل إسرائيل كان أكثر حرية وإنسانية إذا قورن بالمذلة التي يعانى منها وهو محتجز في مطار القاهرة).
استطرد صاحبنا قائلا: منذ عهد مبارك الذى سار على درب السادات في النفور من الفلسطينيين وإبداء التفهم والتعاطف مع الإسرائيليين توتر الموقف الرسمي مع فلسطينيي القطاع وظل الإعلام معبراً عن ذلك التوتر طوال الوقت، الأمر الذى كان له تأثيره السلبى على الرأي العام المصري. وكان معبر رفح هو «الترمومتر» الذى يقاس به التوتر صعودا وهبوطا. وحين انتخب الرئيس محمد مرسى فإن مصر الرسمية تصالحت مع فلسطينيي القطاع بدرجة أو أخرى، إلا أن موقف المؤسسة الأمنية لم يتخلص من الحساسية والشكوك التي استمرت طوال الأربعين سنة السابقة. حدث ذلك أيضا مع وسائل الإعلام التي تبنت موقفا مخاصما من الدكتور مرسى وازدادت حساسيتها إزاء القطاع بسبب العلاقة التاريخية بين حماس والإخوان. ولأن الرئيس السابق لم يستمر في منصبه أكثر من عام فإن القيود والمعاملة المهينة للفلسطينيين في المطارات وعند معبر رفح ربما اختلفت في الدرجة لكنها لم تختلف في النوع، ومن المحزن أنه في حين أن الدخول أو الخروج إلى قطاع غزة من معبر رفح مذلا ومهينا ومكلفا (كل فلسطيني يدفع رسم مرور بقية 160 جنيها في الذهاب ومثلها في العودة) فإن الأمر يصبح ميسورا ومجانيا إذا كان الدخول إلى إسرائيل من معبر ارينز الذي تسيطر عليه.
أعاد صاحبنا الاعتذار لي عن انزعاجي من سؤاله. ثم قال: إنني لا أريد أن أغضبك بالتساؤل عما يجرى للأنفاق التي أصبحت شريان الحياة لسكان القطاع، والتي كانت ومازالت حلا عبقريا لجأ إليه الفلسطينيون للتغلب على الحصار الخانق الذى فرضه عليهم الإسرائيليون عقابا للمقاومة وتأديبا لأهل القطاع الذين صوتوا لها. وهى الأنفاق التي غض الطرف عنها نظام مبارك، عن اقتناع بأنها لا تمثل خطرا أو تهديدا لمصر. إلا أن هدم الأنفاق وإحكام الحصار على الفلسطينيين أصبح سياسة متبعة في الوقت الراهن. وربما كان ذلك مقبولا ومحتملا لو أن هدم الأنفاق اقترن بقرار فتح معبر رفح لتزويد القطاع باحتياجاته المعيشية، إلا أن ذلك لم يحدث للأسف، حيث تسارعت خطى الهدم واقترنت بالسعي إلى إقامة منطقة عازلة على الحدود مع غزة. الأمر الذى يحقق لإسرائيل وأعوانها هدفهم الأصلي في خنق القطاع وتركيعه، في حين أنه لا يحل أي مشكلة لمصر سواء في سيناء أو في أي مكان آخر، والسبب في ذلك أن حماس لم تكن لها علاقة بأية حوادث وقعت خارج حدود القطاع، على عكس ما تروج له الأبواق غير البريئة التي لا تكف عن التشهير بها في الإعلام المصري.
في ختام كلامه قال محدثي: سامحني إذا كنت قد سألت عن خيار قصف الطيران المصري للقطاع، لكن هذه الفكرة أطلقها أحد الخبراء الاستراتيجيين على شاشة التليفزيون المصري، فأحدثت دويا في المحيط الفلسطيني، الذى كانت كوابيسه تحدثه عن القصف الإسرائيلي وأحلامه تتعلق بالاحتماء بالمظلة المصرية سياسيا وعسكريا. لكن قطاعا لا يستهان به من الفلسطينيين بدأ الآن يفكر في خيارات الاحتماء من القصف المصري.
عذرت الرجل وقلت لا تحاكم الضمير المصري بخطاب الأدعياء الذين طفوا على السطح في زمن الالتباس والكراهية وانتكاسة الثورة خصوصا أغلب الخبراء الاستراتيجيين الذين يعبرون عن تلك الأجواء بأكثر مما يعبرون عن الوطنية المصرية. ومبلغ علمي أن الوفاء للقضية الفلسطينية والانحياز إلى المقاومة من ضرورات الدفاع عن الأمن القومي المصري. لذلك فإنها تعد من المعايير التي تقاس بها تلك الوطنية. وهو ما التزم به المخلصون من زعماء مصر، من النحاس باشا إلى جمال عبدالناصر. وأرجو أن تعتبر ذلك إجابة على سؤالك.
من صفحته على الفيس بوك
فهمي هويدي
فلسطين في الوطنية المصرية 1399