لقد كان العرب وهم في جاهليتهم يتفاخرون بحسن الجوار وإكرام الجار ورعاية حقوقه وصون حرماته وكف الأذى عنه.
وقيل الجار ذو القربى هو الجار المسلم والجار الجنب هو الجار الكافر.
وقيل : الجار ذو القربى هو الجار القريب جواره والجار الجنب : هو المجانب وهو من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيد.
وكل هذه المعاني صحيحة والآية تشملها وتدل عليها وهؤلاء كلهم لهم حق الجوار وإن كان حقهم متفاوتاً بحسب تفاوت أحوالهم.
قال الحافظ بن الحجر: واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب داراً والأبعد وله مراتب بعضها اعلى من بعض فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جراً.
فالجار الذي بينك وبينه قرابة؛ حقه أكثر من حق الجار الأجنبي وحق الجار المسلم أأكد من حق الجار الكافر والملاصق حقه مقدم على حق البعيد وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (قلت يا رسول الله : إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال : إلى اقربهما منك بابا).
والجار هو الجار المجاور لك سواء كان جارا مالكاً للمنزل أو العمارة أو الجار المستأجر لمنزل أو شقة في عمارة فله حق الجوار في الإسلام.
وقضت النصوص الشرعية على أن الجيران ثلاثة:
جار له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم القريب، له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة.
جار له حقان : وهو الجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام.
جار له حق واحد وهو الجار الكافر له حق الجوار.
وقد اختلف العلماء في حد الجار في من يشمله اسم الجوار على أقوال كثيرة:
من ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه انه قال :- ( من سمع النداء فهو جار ) فكل من يسمع صوت مؤذن الحي الذي يؤذن بدون مكبر صوت فإنهم يعتبرون جيرانا.
وقيل : من سمع إقامة الصلاة فهو جار. وقيل : من صلى معك صلاة الفجر في المسجد فهو جار. وقيل : من جمعتهم محلة أو حي فهم جيران. وقيل : حد الجوار أربعون دارا من كل ناحية وهذا قول عائشة والأوزاعي والحسن البصري والزهري وغيرهم. والراجح أن حد الجوار يرجع فيه إلى العرف لأن القاعدة الشرعية تقول : كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف
وعلى هذا فما اعتبره العرف جارا ًفإنه جار له حق الجوار من الإكرام وبذل الندى وكف الأذى ونحو ذلك.
عظم حق الجار:
أوصى الله تعالى بالإحسان إلى الجيران كلهم قريبهم وبعيدهم برهم وفاجرهم مسلمهم وكافرهم كل بحسب قربه وحاجته وما يصلح لمثله، أما السنة النبوية فقد حفلت بنصوص كثيرة توصي بالجار وتوكد حقه وتأمر بإكرامه والإحسان إليه، وتتوعد على إيذائه وعقوقه.
فعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم
( قال :ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت انه سيورثه ) ويقول عليه الصلاة والسلام : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) وفي رواية : (فليحسن إلى جاره).
وهذا يدل على أن إكرام الجار وطيب المعاملة له من شعب الإيمان وسمات المؤمنين وان من لم يكرم جاره لم يتم إيمانه.
وقد اكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (والذي نفسي بيده لا يومن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه).
فبين الرسول (ص) أن الإحسان إلى الجار دليل على صدق الإيمان وشعبه من شعبه وسبب من أسباب زيادته وقوته.
وقد قال بعض الحكماء : ثلاث اذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله : إذا حمده جاره وقاربته ورفيقه.
ويذكر أن حق الجار على ثلاثة مراتب: أدناها كف الأذى عنه ثم احتمال الأذى منه وأعلاها واكملها إكرامه والإحسان إليه.
أما المرتبة الأولى : وهي كف الأذى عنه فهي اقل ما يجب على الجار تجاه جاره فإنه إذا لم يحسن إليه فلا أقل من أن يكف أذاه عنه.
والله تعالى يقول : ((والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثما مبيناً)) فكيف إذا كان المؤذي هو جارك المؤمن فإن الإثم أشد.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره).
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه) فاقسم ثلاث مرات على نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه كما نفى عنه دخول الجنة وهذا الوعيد الشديد ينبئ عن تعظيم حق الجار وان الإضرار به من الكبائر.
والمقرر عند أهل السنة والجماعة : أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان فلا يسلب منه الإيمان مطلقاً ولا يعطى الإيمان المطلق، أي : الكامل هذا حكمه في الدنيا أم في الآخرة فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر كبيرته ثم يكون مآله إلى الجنة فهو إن دخل النار لا يخلد فيها كما يخلد الكفار.
وقال عليه الصلاة والسلام :- (أول خصمين يوم القيامة جاران) وقد دل الحديث على أن الله تعالى سينتقم للجار المظلوم من جاره الظالم وان هذه الخصومة مقدمة على غيرها مما يدل على خطورة ظلم الجار أو التقصير في حقه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال : اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال : اذهب فاطرح متاعك في الطريق فطرح متاعه في الطريق فجعل الناس يسالونه فيخبرهم خبره فجعل الناس يلعنونه : فعل الله به وفعل و فعل.. فجاء إليه جاره فقال له : ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانه تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها قال : لا خير فيها هي في النار قيل : فإن فلانه تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بأثوار من قط ولا تؤذي جيرانها قال : هي في الجنة ).
وهذا يدل على أن أذى الجار من الأسباب الموصلة إلى النار وأن كف الأذى عنه سبيل موصل إلى الجنة.
نماذج من أذى الجار:
صور الأذى للجيران كثيرة، ومن أكثرها شيوعاً : التطلع إلى محارمهم والنظر إلى نسائهم وتتبع عورتهم والتنصت عليهم والتجسس على أحوالهم وكشف أسرارهم ونشر قالة السوء عنهم والوقيعة في أعراضهم والسعي في الإفساد بينهم وإذاعة مثالبهم وطمس مناقبهم وإيذاؤهم برفع أصوات الآت اللهو والغناء وكذلك إصدار الأصوات المزعجة وخصوصاً في أوقات النوم والراحة.
ومن ذلك وضع الحيوانات والطيور التي تؤذيهم برائحتها وتزعجهم بأصواتها وكذلك وضع القمامة عند أبوابهم ونحو ذلك.
محمد أمين الكامل
انعدام حق الجوار أول مواطن الفساد والشر في اليمن (2) 1308