إن المواطن الصالح الذي يريده الإسلام هو ذاك المستنير بالعلم وبالعقل، والمجرد عن الأحكام المسبقة، والقادر على تكوين رأي علمي موضوعي حول القضايا العامة الخاصة بشؤون الأمة والبعيد عن ضغط أهوائه الشخصية ونزواته الخاصة, والبعيد عن الضغوط المذهبية والقبلية والطائفية والحزبية..
والمتعصب لا يمكن أن يشكل رأياً صالحاً في القضايا العامة في بلده، ما دام مخموراً بولائه الضيق وأحكامه المسبقة، خصوصاً وأن الديمقراطية تقترن بالظواهر التعددية، تعددية في الآراء وتعددية في الأحزاب السياسية، وتعددية في السلطات, وتعددية في الرأي العام، وهي نظام لم يكتب له النجاح إلا في الدول التي استطاعت أن تحقق عاملين هامين: الارتقاء بالفرد إلى مرتبة مواطن بمواصفات الوعي، وترسيخ السلطة في شكل مؤسسات معقلنة كي تنتقل من مرحلة التركز في مصدر واحد لتتوزع على مؤسسات ناضجة مجردة من الصفة الشخصية..
وهذه التعددية وهذان العاملان في مجملهما يؤديان إلى إدراك ضرورة محاربة داء العصبية في أوساط المجتمع ومؤسساته، حتى يخلص أفراده إلى المواطنة المتساوية التي تتجرد من الولاءات الضيقة، وهي تتعامل مع قضايا الوطن الذي يعيش فيه الجميع..
فما أقبح تعصب الفرد, ولكن أقبح منه تعصب المؤسسات الرسمية أو المنظمات الأهلية، وأقبح من ذلك عصبية الأجهزة التي يفترض فيها نصرة المظلومين، وبيان حقوق الناس كالقضاء، والنيابة، وأجهزة الرقابة والإعلام, و.. الخ.
إن ريش الفساد لا ينتفش إلا بوجود النفعيين المتعصبين لبقائه، وأن المفسدين يعلمون أن مصالحهم مرهونة ببقاء فيروس العصبية الذي يكتسح القضاء والإعلام ورجال الدين والناشطين والناشطات وكبار الساسة وصغار الموظفين.. وما أمر مصر منا ببعيد، وقد أسقط أمرها قامات، طالما شمخت، وقد كان في شموخها الكثير من البلاء والتعصب والمعايير المزدوجة, (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم).
إننا نجزم أن العدالة في أي بلد بكل صورها لا تتحقق إلا ببعد المسئولين عن العصبية وعن تأثيرات العصبية الحزبية أو المناطقية أو القبلية أو الطائفية، وقد اضطرت سنغافورة, وهي الدولة
الأعلى دخلاً للفرد في العالم, عند تأسيسها إلى فرض اللغة الإنجليزية كحل جذري لنزع العصبية اللغوية للأعراق الأربعة التي تتكون منها تلك الدولة، مع منظومة من قيم المواطنة الأخرى التي جعلت ذلك البلد من أفضل البلدان عدالة وحرية وإنتاجاً على مستوى العالم في مدة لا تتجاور نصف قرن من الزمان.
وأختتم وأقول: إن المفهوم القرآني (وتعاونوا على البر والتقوى) يبني قيم المواطنة في كل زمان ومكان، ويقضي على كل العصبيات التي تفترض التعاون على أساس العرق أو الانتماء أو الفكر أو الطائفة أو غيرها, بل ينبغي أن يكون أساساً للإنتاج في حياة الناس, لأنه يضع معياراً للتنمية, فما كان مفيداً لدنيا أي فرد فهو من البر وما كان نافعاً لآخرة أي فرد فهو من التقوى, فلا مجال في هذا المفهوم إلا للمواطنة الصالحة النقية من أي عصبية.. والله الموفق.
محمد سيف عبدالله
التخلي عن العصبية 1266