يجتهد الناس أن يحققوا شهرة وحظوة واهتماماً هنا أو هناك، ويجعلوا من النجومية مسألة اهتمام تستحوذ على تفكيرهم، ولأجل التميز والاهتمام يتفننون في البناء ليكون البناء الأكثر اهتماماً، ولتكون سيارته أو مظهره أو ما يمتلك محط إعجاب وتقدير، وتجدهم ينفقون أموالا ويدخلون دورات تدريبيه لجذب الأنظار والتمتع باهتمام الجماهير، ولكن هذه الحظوة لا يمكن أن تبلغ إلى العالم العلوي في ملائكة السماء، ولا يمكن أن تصل إلى الدواب والحيتان والنمل، فهل يوجد أناس تحتفي بهم كل هذه الكائنات في العالم العلوي والعالم السفلي، ويحظون بتقدير الملك في سماه والحوت في بحره وماه، نعم هناك من يحظون بذلك وبخير من ذلك، وبأكرم من ذلك يحظون برضوان من الله، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ} (72) سورة التوبة.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" رواه الترمذي وصححه الألباني.. وذكر عن الفضيل بن عياض أنه قال: عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السموات.. وروى الحاكم في المستدرك عن مسروق قال: قرأت عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن إبراهيم كان أمة قانتا لله", قال: فقال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتا, قال: فأعادوا عليه فأعاد؛ ثم قال: أتدرون ما الأمة؟.. الذي يعلم الناس الخير, والقانت الذي يطيع الله ورسوله.. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي.
إن هذا الاحتفاء الإلهي والكوني أمر عظيم حقاً، إن هنالك من الناس من لو أقسم على الله لأبر الله قسمه، بمعنى لو أنه يقول: والله لينزلن الله مطراً فينزل الله مطراً, لمكانة هذا العبد عند الله، وهناك أناس منزلتهم عند الله بوضع القبول لهم في الأرض وهناك أناس منزلتهم عند الله عز وجل هذا الفضل والمنزلة وهذه العناية بأمرهم وهذا التكريم لهم وهذا الفضل الذي يصبه عليهم ويزكيهم به ويشرفهم باختصاصهم بهذا التكريم العظيم، ولا يحتاجون بعد تكريم الله شيئاً, ومعنى صلاة الله عليهم الرحمة, فالصلاة من الله الرحمة، ومن الخلائق تعني الدعاء، ولكن الله يفيض بكرمه ورحمته على خلقه حتى يظهر فضله عليهم, فإذا بالكون العلوي والسلفي كله في اهتمام بأمرك كل هذا الاهتمام والعناية والتكريم..
ألا يغري المؤمن أن يكون له قدم صدق في هذا الفضل الكبير، والتكريم الجليل؟.. إن من يعرف هذا الأجر ويوقن بهذا الفضل ويشتاق لتلكم المنزلة يكون له شأن مع الدعوة كبير، يليق بما رشح نفسه له، (قد رشحوك لأمر لو فطنت له فربأ بنفسك أن ترعى مع الهيم)، من لم يشاهد جمال يوسف لم يدرك سبب بكاء يعقوب حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم.
إن الإنسان يسره دعوة رجل صالح له، ويطلب الدعاء منه، فكيف إذا كان الذي يدعو الله لك ملك لم يعص الله عز وجل قط، وليس ملكاً واحداً, بل قال: "إن الله وملائكته" فأنت تسير محاطاً بالدعوات والبركات، وما الدنيا إلا مضمار سباق, فهذا أوان العمل والجد والاجتهاد، وأنت تسير محاطاً بعيون الكائنات وباهتمام أهل الأرض وسكان السموات..
قال المناوي في فيض القدير: أي يستغفرون لهم طالبين لتخليهم عما لا ينبغي ولا يبق بهم من الأوضار والأدناس, لأن بركة علمهم وعملهم وإرشادهم وفتواهم سبب لانتظام أحوال العالم.. وذكر النملة والحوت بعد ذكر الثقلين والملائكة تتميم لجميع أنواع الحيوان على طريقة الرحمن الرحيم وخص النملة والحوت بالذكر للدلالة على إنزال المطر وحصول الخير والخصب ببركتهم, كما قال: بهم تنصرون وبهم ترزقون حتى أن الحوت الذي لا يفتقر إلى العلماء افتقار غيره, لكونه في جوف الماء يعيش أبداً ببركتهم. ذكره القاضي.
وقال الطيبي: قوله إن الله وملائكته جملة مستأنفة لبيان التفاوت العظيم بين العالم والعابد وأن نفع العابد مقصور على نفسه ونفع العالم متجاوز إلى الخلائق حتى النملة وعطف أهل السماوات على الملائكة تخصيص بحملة العرش وسكان أمكنة خارجة عن السماوات والأرض من الملائكة المقربين, كما ثبت في النصوص وفي يصلون تغليب للعقلاء على غيرهم واشتراك, فإن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ومن الغير دعاء وطلب وذكر النملة وتخصيصها مشعر بأن صلاتها بحصول البركة النازلة من السماء فإن دأب النملة القنية وادخارها القوت في جحرها ثم التدرج منها إلى الحيتان وإعادة كلمة الغاية للترقي والصلاة من الله بمعنى الرحمة ومن الملائكة بمعنى الاستغفار المعبر به في الرواية الأخرى ولا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وجميع المخلوقات بالاستغفار والدعاء له إلى القيامة، ولهذا كان ثوابه لا ينقطع بموته وأنه ليتنافس في دعوة رجل صالح فكيف بدعاء الملأ الأعلى وأما إلهام الحيوانات الاستغفار له فقيل لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم المبينون ما يحل منها وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ودفع الضر عنها حتى بإحسان القتلة والنهي عن المثلة فاستغفارهم له شكر لذلك النعمة وذلك في حق البشر آكد, لأن احتياجهم إلى العلم أشد وعود فوائده عليهم أتم.
قال العلماء: ولهذا عظم شأن الفقيه الداعي المنذر حتى فضل واحد منهم على ألف عابد, لأن نفعه يعم الأشخاص والإعصار إلى يوم الدين.
د. محمد عبدالله الحاوري
كن محور الاحتفاء الكوني 1852